كان يدللني كأني أميرة متوجة، يضعني في كفة العالم، ولا يدع أحدًا يجرؤ على السخرية من مظهري أو كلماتي.
كان يراني أجمل امرأة خطت قدماها الأرض، حتى عندما كنت أرى في عيون الآخرين عكس ذلك.
كنت أرى الاشمئزاز في نظراتهم، وإن حاولوا التصنع.
شعرت بالنفور الجماعي، وكأنه حق مشروع لمن يفتقرون إلى الإنسانية، لأنني كنت مختلفة، لأنني كنت مصابة بمتلازمة هنتر.
جسدي لم يكن كأجسادهم، ملامحي لم تكن كملامحهم. كنت أتحمل الألم في مفاصلي كمن يحمل جبالًا على كتفيه، وأرى انعكاسي في المرآة كغريب لا ينتمي لهذا العالم. لم أكن فقط فتاة تهوى الوحدة، بل كنت فتاة ترفضها الحياة نفسها.
ما زلت أتذكر أول يوم لي في المدرسة. كنت طفلة ضعيفة النظر، فجلست في منتصف الفصل لأتمكن من رؤية السبورة. لكن المعلمة طلبت مني الوقوف، ثم أشارت إلى المقعد الأخير. حاولت الرفض، لكن التأتأة حبست كلماتي، وكأن العالم كله تآمر على خنقي. كنت أخشى السخرية التي رأيتها تومض في أعينهم قبل أن أتحرك. أومأت برأسي واستسلمت. مشيت نحو المقعد الأخير بخطوات مثقلة، شعرت وكأنني أعبر ممرًا من نار، كل خطوة كانت تحرقني من الداخل.
وحينها، رأيته. كان أبي يمر من أمام النافذة. غمرتني مشاعر متضاربة، بين فرح برؤيته وحزن لا أستطيع وصفه.
أردت أن أناديه، أن أطلب منه أن ينقذني من تلك النظرات التي كانت تحرقني كجمرات. لكن الكلمات لم تخرج. أشرت إليه مستنجدة، لكن ساقي خذلتاني، فسقطت على الأرض.
وفي تلك اللحظة، سمعنا صوت ارتطام سيارة. تراكض الطلاب نحو النوافذ، يزاحمون بعضهم ليشاهدوا الحادث، غير مكترثين بي. كنت أشعر أنني كائن شفاف، لا يراه أحد. داسوني بأقدامهم، ولم أكن أملك القوة للصراخ أو الاحتجاج.
اقتربت المعلمة بعد أن صرفت الطلاب، ورفعتني عن الأرض. حاولت تهدئتي وهي تمسح دموعي، ثم اصطحبتني إلى مكتب المدير. هناك، سألني سؤالًا كسرني أكثر:
- هل لديك أحد غير أبيك، أماندا؟
شعرت بجسدي يرتجف، وكأن السؤال أطلق عاصفة بداخلي. شُل لساني، ولم أشعر بنفسي إلا وأنا في عيادة مشفى الأيتام. هناك، أخبروني أنني سأعيش بينهم، لأن أبي رحل إثر حادث السيارة الذي سمعنا صوته.
حاولت أن أستوعب كلماتهم، لكن عقلي رفض التصديق.
منذ ذلك اليوم، أصبحت نافذتي ملجئي. أقف كل ليلة خلفها، أنتظر. أبحث في ظلام الليل عن طيفه، عن صوته، عن دفء حضنه. كنت أردد في داخلي: "سيعود. لا بد أن يعود."
لكن الليل طويل، والصمت أطول. كنت أغرق في ذكريات وجهه، في دفء كلماته التي كانت تمسح عني آلامي. تعلمت أن أعيش على فتات الذكرى، وأن أقبل الوحدة كرفيقة دائمة. لم أعتد النوم إلا بعد أن كان يقبل جبيني، فأنا ما زلت أفتقد أبًا استحق بجدارة كلمة "رجل".
وها أنا الآن، أكتب قصتي كي أخلد ذكرى رجل لم يكن فقط أبي، بل كان عالمي بأسره. رجل علمني أن الحب لا يُقاس بالكمال، بل بالاحتواء. رجل كان آخر من رأيته في حياتي قبل أن أفقد كل شيء.
الكاتب
محمود أبوزيد باشا.
21/2/2025
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق