أبي العزيز
مواقف وعبر
1- حنون
كان حنونا بشكل مفرط وورثت منه ( بدون مبالغة ) ذلك الحنان، كنا نهرول إليه وهو عائد من عمله مساءً (وبشكل يومي) ونترك ماكان يلهينا من لعب ونرتمي في أحضانه فيحملنا بكل فرح فتتسائل زوجة جارنا باستغرب
ألم يودعكم صباحا؟ من أين تجيئون بكل هذا الكم الهائل من الاشتياق
2- سباح ماهر
كان سباحا ماهرا، لأنه نشأ وتربى قرب نهر الوند، أحب النهر فأحبه، فأمن شره، لا أدري لماذا كان يخوض النهر ماشيا عند نزوله له في البداية، حتى تصل المياه إلى مادون كتفيه، ثم يمدُّ كلتا ذراعيه فيغوص عميقا، ثم يظهر في مكان أخر بعد أن يشد قلبي هلعا من الخوف عليه ثم يؤشر لي بيديه مع ابتسامة ما أحلاها.
3- كرم عن بعد
بعد مشيئة الله ولطفه بنا، لم نكن نشعر بالعوز أو الحاجة حتى بعد أن غاب عنا لثمان سنوات حزينة قضاها في الأسر، لم ينقطع عنا راتبه، وكانت رسائله دستورا لنا وخطة طريق وكلماته التي يرسلها لنا من بعيد تدثرنا بود عميق تجعلنا نشعر بوجوده بيننا، فنشكره في أعماقنا، كُلٍ على طريقته.
٤- واثق
لم يوبخني، حين علم بفشلي في أحد الاختبارات وحصولي على درجة ضعيفة فيه، فقط استمع إلى عذري وصدقه، ثم دعى لي وتأمل أن أنجح بتفوق كالعادة وكان له ما تمنى بفضل الله.
5-عجز
أبي وهو يحتضر بين ذراعي (في مستشفى ابن زايد) طلبَ مني الهواء، أنا لم أستطع تحقيق أمنيته، أتذكر أنني منحته دموعاً كثيرة ونحيب يدمي القلب؛ رغم أيماني بالقدر وانصياعي له فالقلب يحزن والعين تدمع على فقدان الأحباب.
٦ -قلق الرجال
قبل أن يحل الصباح بساعة أو ساعتين يستيقظ أبي، وبعد أن يصلي يذهب إلى حديقة البيت فيقوم بالاعتناء بها من رش الماء وتشذيب الأشجار، ثم يقطع باحة البيت جيئة وذهاباً ليفتعل عملا هنا أو هناك لا أدري من أين كان يستخرج تلك الأعمال الصباحية ( كل يوم ) قبل موعد حضور السيارة التي تقله إلى محل عمله، فيسألني بعض الأحيان سائقها قائلا: حسرة بقلبي أجي بيوم وألكي أبوك مستعد وينتظرني ألا يخليني أنا ألي أنتظره.
7 – رسالة
كل شيء فيه أرتحل إلى اللامكان، كانت عيوننا تدمع وتبرق لسماع أي خبر عنه في النهار كانت عيون الجيران تراقبنا وتتأملنا بشفقة لأنهم كانوا يعلمون عنه مالم نكن نعلم في كل ليلة كنت أغمض عيني وأسافر إليه في رحلة من الخيال، ربما غاب جسده عنا لكن أنفاسه مازالت عطرة، العمر كان يتشظى ويمر بدونه حتى جاءت الرسالة.
8-سنوات الأسر
ثمان سنين عجاف قضاها في الأسر تكلم عن بعضا من معاناته هناك وكتم الكثير وخصوصا عن الوالدة بعض من تلك الآلام كان يفضيها إلي ونحن نسقي الزرع بعيدا عن البيت وفي هدوء ذلك المكان الجميل، وكان يؤكد على كونها من الأسرار والتي مازلت أكتم الكثير منها لقساوتها.
9- نموذج من رسائلي لوالدي ( رحمه الله ) وهو في الأسر
أبي العزيز:
أودُّ الكتابةَ إليك، في هذا الصّباح الحار اللاهب الذي نفتقد فيه الكهرباء الوطنية وكهرباء المولدة العمومية مما يجعل أيامنا أشبه ببروفة لأيام جهنم نعوذ بالله منها لك ولنا ولكل الناس الصالحين، أود أن أقصّ عليك أحلام اللّيلة الفائتة بكل هلوسة وأضغاث أحلامها، أريد أن أتأكدّ منك كيف تراك تعيش بعيدا عنا، وكيف تقضي أيامك في سنين الأسر الموحشة، كنت تشتاق إلينا ونحن بين يديك، فماذا تفعل الآن في هذا الغياب القسري الحزين؟
أتوقع أن تكون قد شفيت من دائي السكر والضغط هناك، لأنني سمعت أنهم يمارسون سياسة التجويع على الجميع بالمجان، والجوع ( كما يعلم الجميع ) يقتل المرض وفي بعض الأحيان يقتل حتى المريض .
أني أتسائل هنا، هل مازلت تقضي أوقاتك ( التي تسرقها عنوة من رحم المعاناة ) مع أوراقك التي تملأها بالكتابات والأشعار الجميلة التي ترسلها لنا في رسائلك؟
قل لي يا أبي كيف هو صباحك وكيف تبدأه كل يوم من هم رفاق زنزانتك، وكيف تتعاملون مع بعض؟ أقسم أنك قد تسلّلت ليلا إلى أحلامي عدة مرات، حتى أني في بعضها كنت أعلم أنني أحلم وكنت أقرص نفسي داخل الحلم لعلني أصحو، وعندما أصحو أحاول أن لا أفعل شيئا حتى تضل ذاكرتي رطبة بمشاهد الحلم الذي تكون أنت أغلى أشخاصه، هي أحلام أتذكر فيها وجهك المبتسم دائما لا زال يا أبي شغفنا فيك كشمعة لا تنطفئ، تمر علينا السنين بانتظار عودتك، تتسائل أمي: ترى كيف سيكون شكلك عندما تعود؟
ثمان سنين كافية لتغيير المظهر ة لكننا كنا متأكدين من الجوهر، وجهك ابتسامتك لون شعرك ولحيتك وزنك سمعت أن جميع الأسرى العائدين يملكون شكلا متقاربا ووزنا متقاربا ونظرة متقاربة يشوبها التوتر والارتياب عدة أيام ولبعضهم عدة أسابيع وشهور، نحن بأنتظار عودتك على أحر من الجمر، فقط عد والباقي بعد مشيئة الله علينا.
10- نموذج من رسائله لنا:
أولادي الأعزاء:
أكتب إليكم من خلف قضبان الحديد التي أكلها الصدأ وطول الذكريات، أكتب إليكم والهم والحزن يلفني، نحن هنا نعاني الأمرين من البعد والفراق ومن فقدان الأمل، أعلمكم بأن ملامحي قد تبدلت وعيوني قد وهنت من دموع البعد والقهر.
أولادي الاعزاء:
لقد صرت أسيرا بين ليلة وضحاها، وهذا أمر الله، فنحن نؤمن بالقدر خيره وشره، سأوافيكم تباعا بأخباري التي ألخصها بالملل وطول التفكير، أنتظر رسائلكم وأخباركم بأحر من الجمر فلا تبخلوا علي بها.
التوقيع: أبو سورميد.
ملحوظة:
سورميد أختي ولدت بعد عودته من الأسر بسنين واسمها مركب من أول ثلاث أحرف من اسمي أشقائي (سوران، وميديا ).
11- الموت غياب لا يصدق:
كنت أشفق كثيرا على أصدقائي أو على أحد من معارفي البعيدين، عندما أسمع بخبر وفاة أحد الوالدين، أجد الموضوع صعبا جدا أردد في نفسي، ماذا سيحل بفلان بعد فقدان أباه؟
لكنني كنت أشعر بإطمئنان إذ أظن أنه من المستحيل أن يموت أبي، هم يختلفون عني تماما فهم أبائهم قابلين للموت، أما أنا فإنني أؤكد أن أبي عصيا على الموت.
أشفق عليهم لكنني لا أشبههم، ولا أنتمي إليهم ... فالذين يموت أبائهم غرباء عني وليسوا من فئتي، أجلس في مجالس عزائهم وأنا أشعر أنني الوحيد ذا لون مختلف داخليا عن أولئك الرجال الذين يجلسون من حولي بعضهم يأكله الحزن بشكل مأساوي.
ذات يوم سقط أبي مريضا وتتابعت الأحداث حتى تمكن منه الموت، تذكرت تمردي على فكرة استحالة موت أبي كم كنت ساذجا عندما اعتبرت أنني لا أنتمي إليهم أولئك الذين يموت أبائهم.
الآن أصبحت يتيما مثلهم، كان أقتناعي أن والدي قد مات وأنه من جنس البشر الذين يموتون صعبا جدا.
كان أبي جميلا للحد الذي جعل الأرض عاجزة عن حمله فخبأته داخلها، اللهم أرحمه وأغفر له.
12- كلام في حقة (والدي الأسير):
ثقيلة هي تلك السلاسل والقيود، لكن يقينا أنك أشجع من تكبل بها وذاق فيها الأمرين وأختار الصمود، حياتك نذرتها للوطن رخيصة وبها كنت تجود، خلف عتمة السجن تبكي القضبان نوائب الزمان وتشتكي الظلم من الأعداء وحتى من الشركاء الذين باعوا الوطن وقبضوا لخيانتهم الثمن، سنين وأنت تقبع هناك بين الحقيقة والحلم، كيف لا يثقلك التعب؟ وأنت تتحمل كل ذلك العتب، ألف ليلة وليلة، وأنت ترتدي البندقية كأنها سنابل، وتتنكبها كزي مقاتل، ألف مصنع لايسع إعداد تلك الرصاصات التي منها أطلقت، ومنها نسجت قصائدا للنصر، وعلى عتبة الساتر كنت تغني وتقترح الأمان والسلام للسماء وللعيال وتقتحم المعاقل، كنت الوحيد الباقي بين شهيد وجريح، تقفُ شامخا ووجهك ملتفت صوب ضياء الشمس، في زمن الصقيعِ والبرد يمتد ويسري بالدم، وببرودته يكسر العظم، وخلفك يأمن تراب الوطن يدفعك الواجب للصمود ، وأنت لرفاقك تقود، هو الوطن الذي من أجله كنت تدفع الثمن،
تبعثرت بين يديً رسائلك وأوراقها المصنوعة من علب مسحوق الغسيل، سمراء زركشتها بأناملك فدبت فيها الحياة ثمان سنين مرت بك، وأنت ترسلها لنا دون ملل، ونحن نعتبرها دستور وخطة طريق، سنين وسنين رسمت خطوط العمرعلى وجنتيك تجاعيد من آهات وأنين، تحمل بين سطورها غربة الأوطان ودورة الزمان وغدر الإخوان، رسائلك تارة تحملنا إلى عالم الخيال وبها كنا بك نلتقي، وأخرى ترمينا إلى مر الحقيقة، فندرك أن اللقاء مؤجل على أسنه السيوف، فتتناثر أرواحنا متمردة، ثم تعود وتهدأ قانعة تنادي بكلمات شعرية تخاطب تلك الحياة بكلامك المتقن تعيدها برّاقة، فتخلد أنفسنا بعد صخبها فتعيدها إلى الهدوء والسلام.
والدي العزيز: ربما أنك لست هنا، ولكن طيفك يسكننا، وعيون أمي تحرسنا وهي نِعم الرفيق والصديق
ومعها تكتمل الحياة، لا..لا تترددي في وصفه أيتها الكلمات، هو الغيث المثقل بالخيرات، هو في القلب رغم بعد المسافات هو الأسير،هو السفير، هو شعلة من نور، أبي الوقور، حتى في غيابك أنت لنا
كل الحضور.
الكاتب
هيثم الزهاوي.
23/10/2023
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق