دهاء امرأة
كانت تجتمع العائلة في غرفة الجلوس الجماعية وتجهز لنا الوالدة فناجين القهوة وأكواب الشاي والتمر، ونبدأ نحن نصغي بانتباه نبش ذاكرة الأولين من لسان مذيعة شابة...
وهاته من التسجيلات النادرة التي ما زلت أحتفظ بها في مكتبتي.
افتتحت زبيدة بشير (1) الشاعرة والصحافية التونسية حلقاتها الإذاعية... بصوتها العازف...
الليلة لا يتعلق الأمر بالاستمتاع، بل بالتأمل والتشاور.
على ما يبدو، لا شيء أكثر كلاسيكية من شخصية تاريخية ترتدي زيا فخما أبيض باهر اللون في محفل رجالي؟
وهبها الله جمالا رائعا مع ذكاء وقاد وقدرة على تدبير الأمور، فكانت حسناء فاتنة.
غريب والله أمر هاته المرأة لغتها عالية ودقيقة تفوح منها رائحة الزمن الأول من الفتوحات الإسلامية.
تربعت تحت خيمة صحراوية، بين إبل المهاري وكلاب السلوقي وجمع من المحاربين.
كان شكل المكان عبارة على قاعة انتظار أدبية... كتب ولوحات وحبر وسيوف... وشاي...
قدمت الجازية الهلالية من نجد إلى تونس لتحرير البلاد من يد الزناتة ... حسب همسات رفاقها، وقالت في الجمع مقولتها الشهيرة: فارقت زوجي الذي أعشقه وولدي الذي أحبه وفارقت رغد العيش إلى الحياة القاسية التي تقوم على النقلة والحرب... إني جئت لتونس الخضراء عازمة على التمكن من فهم "حتمية الطقوس وعماء النفوس" عند البرابرة.
هكذا كانت بداية مؤامرتها لفتح أبواب المدينة وإطلاق سراح مساجين الهلاليين! زعمت نفسها مهددة بقصر النظر فجمعت بشار بن برد وأبو العلاء المعري وطه حسين، جميعهم مكفوفي البصر ليتنافروا فيما بينهم عن دهاء البشر.
التاريخ يحاسب التاريخ... قالت المذيعة مبتسمة.
ولأن "الجازية" تخاف تعاليم الدين في ما قالته سورة النور عن غض النظر وخفض الصوت باعتبارهما زنا حسب تفاسير الرسل، فها هي تزكي قارئة في شخص "أروى القيروانية"(2) الثائرة، لإدارة الجلسة، والتحدث مع التماثيل المتربعة... كل حركة كانت مراقبة من طرف أبي زيد الهلالي الذي أضاف بعد التقديم، حكمه: من يعرف تقييم الرجال أكثر من الهلالية؟
أغمضت "أروى" أجفانها كي لا ترى وأوحت بلطف،،،
بالنسبة للبعض، كونك ضريرا يعني تجهل حقيقة الأشياء، وتنكر ما هو واضحا، وبالتالي أن تكون غير مسؤول.
وبالنسبة للآخرين، الأعمى هو من يتجاهل مظاهر العالم الخادعة، وبفضله يحظى بامتياز معرفة الحقيقة السرية العميقة، المحرمة على البشر العاديين.
بالنسبة لسيدتي "جازية" أنتم الحق... كلكم عانيتم من العذاب وكتبتم وتحديتم وأصبتم وخفقتم وبقيتم شامخين... إنكم تشاركوا في الإلهية، أنتم الملهمون، أنتم الشعراء، أنتم صانعو المعجزات، أنتم المرايا...
بهذا التغزل، بدأت موعظة العميان
مسيرة سيدتي ليست عملا مثاليا بل مصيرا مفترضا.
قدمت إلى تونس لتدعم شعبها ضد الزناتي خليفة (3) الملقب بالديكتاتور العادل، فاطردوها...
إجابتها كانت واضحة: "إذا لم يوافق الشعب على إطلاق سراحه فلا يهمنا... سنفعل ذلك دون موافقته."
أهم ما تتميز به الجازية عن سواها وفاؤها لقومها، فهي سيدة القبائل
إنها واعية بما دونه ابن خلدون في تونس أترضخ أتهجر .
منذ سنين، يحث "الزناتي خليفة" الناس على كراهية بعضها، ودرب تحت أقدامه مواليه الذين ملؤوا المحاكم وسنوا القوانين لمصلحة قائدهم الأحد.
وهكذا تحول الوفاق إلى حكم قبائلي، واستبدل الرجل الحر بالموالي المكتسب، وكتبت سورة المكانة في فهم "الوحدة والجاه المستقيم" على لسان القائد المريد،
وفي الأثناء، أزدهرت الفتن باسم القسط... وعين جلاد الأمس كالمحترف المناسب لمواصلة نفس الوظيفة...
تريد سيدتي أن تفهم منكم، هل الشعب متعام أم فقد البصر؟ أو اختار موسم المأتم المستمر؟
رد بشار بتهكم
أعمى يقود بصيرا لا أبا لكم قد ضل من كانت العميان تهديه.
تبسمت الهلالية... ولم يلاحظوها الرجال.
فقاطعه المعري منفعلا
أحمد الله على العمى كما يحمده غيري على البصر، ومهما يأكل الإنسان فإنه لن يأكل بأكثر من معدة واحدة، ومهما يلبس فإنه لن يلبس على غير جسد واحد، ومهما يتنقل في البلاد فإنه لن يستطيع أن يحل في مكانين.
ربتت الهلالية على كتف "أروى" بحن ولم يرها فاقدي النظر طبعا
أصلح بينهما طه بلطف
أحسن المعرفة معرفتك لنفسك، وأحسن الأدب وقوفك عند حدك...
وقص عليهم كيف فقد البصر؟ "الجهل" خطف بصري بعدما أصبت بالرمد عدل أهلي على جلب الطبيب بل استدعوا الحلاق الذي وصف لهم علاجا ذهب بنور عيني
نطقت الهلالية دون أن تشعر ونست المواعيظ ارتوت من أقوال العميان وأولت رموزها ونظرت لفارسها وكاتبتها ثم أنشدت قائلة:
"ثلاثة من الرجال يا هلال ويا أروى يستاهلو البكاء وعليهم تنق العين ويكثر نحيبها
الأول اللي يعرض راسه للبلاء ويطفي نار سامر لهيبها
الثاني خفيف النفس فصيح اللسان يأخذ حقه وحق من يريدها
الثالث اللي يفرح بالخاطر إذا لفا ويوكلها في وقت الشدة.
وباقيها يا هلال غير حرازات نساء لا يستاهلو نواح لا بكاء."
ومن ثم نسجت مكائدها...
ودخل الهلايل تونس الخضراء تحت قيادة الجازية وابي زيد الهلالي وانتهت تغريبتهم وحققوا حلمهم الأكبر الذي اجتازوا السهول والجبال وذاقوا الموت والهلاك في سبيله.
وأول ما نبضت به في فجر حكمها مقولة الشافعي: قد مات قوم وما ماتت مكارمهم وعاش قوم وهم في الناس أموات.
وختمت المذيعة:
أروع ما احتفظ به الوجدان الشعبي إلى يومنا عن الجازية، هو تلك المقولة السائرة التي تعبر عن توقها الصارخ إلى الحرية وتفضيلها كسب الإبل لأنها هي الوحيدة التي تستطيع في زمانها ترحيل المرء من مكان هيمن فيه القهر والظلم إلى فضاءات واسعة ولو كانت خالية لا يشعر فيها بالذل والهوان.
وقبل تصبحون على خير، زينت السهرة مذيعتنا بشعرها ":
فاتركوني لا أنا منكم ولا فيكم خليق حنيني...
لي ديني غير أديان الورى في ثورتي أوفي سكوني ...
دينكم حقد وبغض وأنا الإخلاص ديني.
نظر أبي إلينا برفق وقال...
إنها خرافة.
(مع بعض الاقتباسات)
1. زبيدة بشير شاعرة وروائية و منشطة إذاعية تونسية ولدت سنة 1938 و توفيت في 21 أوت 2011، متحصلة على العديد من الجوائز الوطنية والدولية. كانت من النساء المنسية من طرف الدولة و المثقفين رغم كل ما قاله الرئيس بورقيبة عليها... هل عاش بورقيبة في زمنها ام عاشت هي في زمنه ؟
2. أروى القيروانية.. المرأة التي ألزمت أبا جعفر المنصور بأول عقد يمنع تعدد الزوجات في الإسلام و صاحبة الصداق القيرواني...
3. مجلة مصرس: الزناتى" الديكتاتور العادل الذى ترك لأعدائه لعنة متوارثة!
الكاتب
عبدالفتاح الطياري.
4/10/2023
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق