الأرملة العذراء
في فجر العشرين من مارس، حضّرت كعادتي قهوتي ومائي و نويت الطوف بربوع منتزهات قريتي . فتحت الباب فشد انتباهي مكتوب بدون ظرف يتوسط جدار مدخل الدار المتكون من اللوح الزجاجي المؤطر بالخشب. انها ورقة بيضاء تحتوي على جملة واحدة: موعدنا على الساعة الثانية عشرة بزاوية سيدي بوزكري... قرية جبلية مجاورة لقريتنا.
الرسالة لا تحمل أي إمضاء.
تساءلت : لماذا موعد في وليّ صالح زمن الغذاء؟
بعد فترة طويلة من المشي عبر ممرات البساتين الفتانة، وصلت إلى المكان المعين.
إعتقادا مني بدخول زاوية، أجد نفسي في حوش به أثاث الخمسينيات وشاي وصحن زيت وعسل تنتظرني على حجرة في مقام طاولة، وعجوز ملثمة بلا وجه ولا عيون تساءلت كيف تراني لتذكر اسمي واسم أمي وأبي ؟
ترحب بي. و أول كلمة تنبذ بها : أنا أرملة فلان... ثم دعتني للجلوس، لتصفح أمامي نص رسالة مكتوبة بخط غليظ كان حبره قديم و كأنه عقد بيع أكل عليه الدهر و شرب.
في أصل هذا العرض، رسالة حب. رسالة من رجل عجوز إلى رفيقته الأبدية.
كانا يلتقيان معا في بيت هرمة دون أبواب ولا نوافذ تقع في الغابة...كانا يجتمعا في السرية الكاملة.
هو شخصية من وجوه القرية، يعيش منعزلا فريدا. يكتب تحت اسمين مختلفين ويطلق عليه أقاربه اسما ثالثا: المجاهد
هي بنت حقول الزيتون، امرأة جميلة وخجولة التقت به في صيف استقلال البلاد. منذ اليوم الأول، أحبته. كانا متحدين. صحيح أن الحب يمكن أن يكون عنيدا. و لكن عشقهما كان تمردا.
لم يتزوجا لأن عائلاتهما قررا مكانهما ردا على ما يشاع في غرف العائلات المحافظة اللاتي يعتبرن حبهما مجونا. فانتشر الخبر على الفور كالحريق متيما قلبين... مدعيا حماية شرف القبيلة...
لقد شاءت الأقدار بما لا يرغبان.
عاشا في مجتمع غريب يهتم بكلام الناس، ولا يهتم بمشاعرهما. أيقنا أني مهما أرادا رضا الناس لا بد من أن يذما.
أرغما نفسهما على " عيش حب مبتور "
تغلب كلام الناس على هذه المغامرة المجهضة قبل الإعلان على ولادتها... كثر عليها الحديث... منعت...
كانت زمانها، قصة قيس وليلى لكل مكبوت من متزوجي القرية. كل ساكن يخترع قصتهما يتداولها بين الرجال ومن بعدها تمررها النساء بينهن حتى تصبح قانون القرية عن سلامة وكمال الزواج... أما تكون المرأة عذراء أم لا ! مومياء يمنع مسها حتى بالعيون إلا ليلة اليوم المعهود. دخلة الرفث كما يتصورها كل مفتون.
من هذا الاتحاد الذي يبدو نظيفا، صنعت المجهولة واقعها الجميل. و بقى في طعمها رائحة الرماد تحت جمر المرارة و الحقد على الأهل ، على سكان الدشرة ، على الطقوس ، و على الزمن...
رسم لها حبها كما تنعته بخط كوفي غليظ : "أنت في منزلك هنا، أنت في منزلي..."
ما هناك هو الولي الذي رعانا وكتم سرنا...
سكتت برهة ثم تنهدت محتشمة:
الرسالة، باختصار، هي جزء من كتابنا. أني امرأة أمية. كان يردد كلماتها علي مسمعي بصوت عالي اثناء لقائاتنا...يعاودها مرارا حتى أحفظها وتبقى صبوتي و اشتياقي بين تقويم مواعيدنا...
حبيبتي اهديك بسمتي مقابل دموعك.
هذه رسالتي، إليك يا ليلاي ، زوجتي أمام الله...
حرمونا من كتابة عقد قراننا في المسجد فاخترنا زاوية هذا الولي الصالح ليشهد على حسن نيتنا وبراءة طموحاتنا...
يتحدث عن مشاهدين آخرين لم يذكر اسمهم... فسمّت لي أربعة أسماء كانوا شهود عيان انذاك...
كان يخبرها عن نفسه وما عانا جراء مساندته للمقاومة أثناء ثورة الجزائريين ضد المستعمر الفرنسي...
يختلط صوتها لدرجة أني لم أعد أفهم جيدا ماذا تقول.
"سأبلغ من العمر ثمانين عاما. لقد تقلصت عشرة سنتيمترات، وزني اليوم خمسة وأربعين كيلوغراما فقط وما زلت جميلة ورشيقة ومرغوبة ومازلت وفية... أزور قبره خلسة كل ليلة خوفا من عيون الناس الفاجرة. ونتسامر ساعات وساعات نذكر مداعباتنا وكل الممنوعات التي حللناها لإنقاذ حبنا المحظور... لقد كنا معا لمدة خمسين عاما وأنا أحبه أكثر من أي وقت مضى و مازلت عذراء. عذراء له.
نظرت إليها والغطاء على وجهها. طلبت منها أني أريد لقاء وجهها. رفضت قائلة: هذا ربي يشهد علي ونظرت للولي الصالح وحلفت: لم أعر وجهي في خلوة إلا له.
لماذا اخترتني أنا لتقصي عليّ قصتك؟
لأنك كتبت علينا في كتاباتك عن وجوه القرية...
رحم الله والديك و شكرا لما قدمته إلينا لتصبح حكايتنا درسا للأجيال القادمة...و ليبقى حبنا خالدا... أما للناس و والدينا منهم، أدعو لهم ما قاله حبيبي قبل وفاته :
عليكم بذكر الله تعالى فإنه دواء، وإياكم وذكر الناس فإنه داء.
صدمت بما سمعت... رأيت ما خلفته أقوال الناس...لاحظت آلام العادات و التقاليد البالية...فهمت عندئذ ان الناس الذين يعرفون القليل يتحدثون كثيرا، أما الذين يعرفون الكثير، فلا يتحدثون إلا قليلا. تلك هي المصيبة...
الكاتب
عبد الفتاح الطياري
18.3.2023
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق