الذوق العام وعصر التفاهة
الذوق سلوك الروح المهذبة ذات الأخلاق العالية والآداب الرفيعة، بل هو قمة الأخلاق والأدب،وهو اختيار لما يتوافق مع طباع الآخرين دون المساس بالقيم الأخلاقية الثابتة،ويُعبر عنه بالذوق الرفيع والخلق السامي المتمثل في احترام الإنسان للآخرين ومراعاته مشاعرهم في تصرفاته وسلوكه بما يتوافق مع طباعهم...هو فن السلوك الجميل والتصرف المقبول اجتماعياً،ويعد أساساً للعلاقات الاجتماعية المهذبة بين الناس.
والذوق العام مرآة لأخلاق المجتمع وعلامة على رقيه وتحضره،ويعكس ترسيخ القيم الإنسانية
فيه،ومدى حرصه على العلاقات الاجتماعية،كما أن نهضة الأمم وإزدهارها وقوتها تقوم على الأخلاق ومنظومة القيم في المجتمع.
ومع تنوع المفاهيم الثقافية،إلا أن معظم المجتمعات الإنسانية تكاد تجمع على مجموعة من القيم والمشتركات الأخلاقية والذوقية التي تساهم في رقي الشعور السامي بأهمية حماية مكونات الجمال والحق والخير ضمن منظومة أخلاقية يدعمها القانون والثقافة،وتربي الذوق الرفيع عند الفرد برعاية المجتمع ومؤسساته الرسمية وغير الرسمية.
والذوق العام يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالسلوك الإنساني،فعندما يفسد الذوق العام للفرد،يؤثر هذا الفساد في قيمه ومعتقداته،و يُفسد شخصيته،مما ينعكس على سلوكه وتصرفاته وطريقة تعامله مع المجتمع.
عام ١٩٦٩م أجرى عالم النفس والاجتماع
الأمريكي (فيليب زيمباردو)تجربة لاختبار السلوك المجتمعي،فقام بترك سيارة بزجاج مكسور وخالية من الأرقام في الشارع،وخلال ثلاثة أيام بدء المارة بسرقة وتخريب السيارة بالكامل،وخرج من التجربة بنظرية أسماها "النافذة المكسورة" والتي تدل على أن إهمال أي مشكلة في بيئة ما_بغض النظر عن حجمها_ سيؤثر على مواقف الناس وتصرفاتهم تجاه تلك البيئة بشكل سلبي،مما يؤدي إلى مشاكل أكثر وأكثر ،والعكس صحيح أيضاً.فمعالجة المشاكل الصغيرة في وقت سريع سيؤدي إلى بيئة أفضل وسلوك أحسن،كما أن عدم وجود رقابة وعقوبات يفاقم المشاكل ويؤدي إلى تدهور المجتمع.
في زمان مضى،كان من يخالف الذوق العام يجد من يتصدى له(المجتمع والقانون) أما اليوم فلا المجتمع يحاسب المخالف،لانه اعتاد على
ذلك،ولا القانون يستطيع إيقافه...
أن تراجع القيم الطيبة في المجتمع أصبحت
بارزة...المظهر والملابس تبدلت،كانت النساء يتمتعن بارتداء الملابس بحرية،لكن من غير بذاءه،وكذلك الشباب، الآن أجتمع الحجاب واللباس الفاضح على جسد واحد،وابتعد مظهر الشباب في الغالب عن الوقار والاحترام،ملابس غير لائقة في الأماكن العامة، وقصات شعر، وتصرفات خادشة للحياء،وسلوكيات منحرفة، أحياناً تحتار هل الذي أمامك ذكر أم أنثى،
واستبدلت كلمات التخاطب العربية،متأثرين بثقافة أعتنت بحاجات الجسد ولم تلتفت إلى الروح...
حين تتعثر ثقافة المجتمع الوادع،فأن عجلة الحياة المادية القاسية سوف تسحق الناس باغراءاتها وترسانتها المليئة بالشهوات .
هناك نوعان من الفن،فن يهدف لعلاقة أمتن مع الروح،ويخاطب عقل المتلقي،وفن يهدف الربح عن طريق السهل،غائبةً عنه الرقابة الجمعية للذائقة السمعية..فهو صناعة "التفاهة" كما وصفه الفيلسوف الكندي (آلان دونو) في
كتابه نظام التفاهة.
نماذج تافهة ظهرت في مجتمعاتنا وسيطرت عليه على حساب النماذج الناضجة وأصحاب المواهب الحقيقية في الفن والأدب والشعر والتعليم والإعلام...
من هنا تكمن المأساة،الناس تستمتع بالتفاهات تحت تأثير المخدر الموضعي من أغاني وأفلام ومسلسلات هابطة،وراقصات مبتذلات متهتكات.
كل هؤلاء ينشرون الفساد،يجعلون من البذاءة شيء عادي ومباح،لأنه يعرض على شاشات السينما والفضائيات،وأقلام مأجورة تصنع من هذه النكرات نجوم في المجتمع.
الإعلام هو فن يشكل عقلية ونفسية الشعب، وكان المؤمل من المحطات الفضائية العربية أن تعزز القيم الاجتماعية والثقافية والاجتماعية العربية من كل النواحي،لكن للأسف بعضها تخدم اجندات أجنبية _ سواء بقصد أو بدونه_تعمل منذ سنوات على تغيير أسلوب تفكير ونمط حياة الشباب العربي، فتقدم لنا أنواع الفن الهابط وأشباه المواهب في كل المجالات،والنتيجة شباب غير منتي لأمته...
وأصبح فن الغرائز هو المهيمن،كثر متابعوه، وازداد أصحابه شهرة وثراء،بينما الفن الراقي والأدب والشعر الراقي والعلوم الثقافية تحولت إلى بضاعة كاسدة،انصرف عنها الناس،وهذه نتيجة حتمية عندما تفسد أذواق الناس وتتعطل
عقولهم...
بريدون أن يقنعوننا أن هؤلاء هم القدوات الحقيقية التي يجب أن تُحتذى... يريدون من هذا التلوث السمعي والبصري والأخلاقي أن يسود حياتنا.
في كتابه"نقطة الغليان" يصف الدكتور مصطفى محمود هذه المأساة قائلاً(........ولو أنك دعوت أينشتاين اليوم لندوة علمية ثم دعوت امرأة عارية لحديث إعلامي لترك الجمهور اينشتاين وعلمه لتجمعوا حول المرأة العارية بالألوف،لأن أكثر الناس من أهل الهوى، ومن عبيد الشهوات،وهم لذلك يشجعون التافه من الأمور وينصرفون عن الجاد).وهذا واقعنا اليوم!!!. أصبحت التجمعات الفكرية والثقافية تخلوا من الحضور،بينما يتزاحم الناس بالآلاف لحضور حفلة لمغني مغمور لايمتلك أدنى مقومات المعرفة الموسيقية،وأغان بذيئة كلاماً ولحناً وأداء،أو على دور السينما أو المسرح لمشاهدة فلم أو مسرحية هابطة في حين يجلس عالم أو أديب أو شاعر مرموق أو فنان تشكيلي كبير عارضاً لوحاته في قاعة جمهورها لايتجاوز أصابع اليد...
ومن يذهب إلى معرض للكتاب،يجد طوابير على حفلات توقيع كتب تافهة،لكنه لم يجدها على الكتب القيمة.
يقول الكاتب الأمريكي(روبرت تي كيو ساتي) في كتابه"الأب الغني والأب الفقير"في حوار جميل...يقول الوالدان للابن:أدرس .قال الابن:
ثم ماذا؟ قالوا:تنجح وتدخل الجامعة.قال الابن:
ثم ماذا؟قالو: لتحصل على البكالوريوس والماجستير والدكتوراه.قال لهم: أبي دكتور ويعمل ليل نهار، وأمي ماجستير تعمل ليل نهار وبالكاد نلحق مصاريفنا،جارنا أبوه مغني وأمه مغنية وعايشين أفضل عيشة.
هناك خلل ما في الذوق العام...أمية الحواس أو الأمية السمعية والأمية البصرية، يجب الوقوف عليه،ولابد من محاربة هذا القبح الذي تفشى وانتشر،نحاربه بالجمال وإعادة أحياء القيم الرفيعة من أجل حماية الأطفال والشباب منه...
كيف لهؤلاء أن يبدعوا،أو حتى يفرقوا بين الجمال والقبح وهم يعيشون في هذا الوسط...
الفن الجيد هو الذي يحترم العقول،لا يلغها
أو يغيبها_مع الأخذ في الاعتبار عنصر الترفيه_ له دور ومسؤولية تجاه المجتمع،يتحيز للجمهور والمواطن ويقوم بكشف وتعرية الواقع،فيكون دوره تنويرياً اصلاحياً.
أما أن يستخدم كأداة للالهاء والتضليل وفق
شعار"الجمهور عايز كده"الذي جاء أساساً من عالم السينما،أطلقه المخرج حسن الإمام وتسرب إلى عالم المسرح ثم تسرب بقوة إلى عالم المسلسلات التلفزيونية،والآن تسرب إلى عالم الأغنية والموسيقى من أجل محاصرة الفن الراقي.
إن هذا الشعار سَهلَ تبرير الفن الهابط وتدمير قيم الأمة،ليدل على أننا بلغنا مستوى من الانهزام النفسي والحضاري أمامه،وليجعلنا نقبل أية لقمة ترمى لنا كالمتسولين حتى لو كانت
مسمومة،ومطارق الشهوات تدق عقول الأمة وتسحق إرادتها لنتحول جميعاً إلى أمة ترقص...
فارضين مناهجهم على القلوب والعقول في البيت والشارع والمدرسة،وفي كل مكان...أن مسؤولية محاربة أفساد الذوق العام،مسؤولية سياسية واجتماعية وأخلاقية ودينية،يشترك فيها النظام السياسي مع الفعاليات المعنية إذا ما أريد انقاذ الذوق العام من هذه التفاهات.
ويبقى للإعلام دور هام في المساهمة في بناء المجتمع،ومن وظائفه تهذيب الذوق العام وتفعيل آلية حقيقية للرقابة من أجل الحفاظ على ما تبقى من ذوقنا الراقي،وإلا كما يقول المفكر الأمريكي نعوم تشومسكي في كتابه "عشر استراتيجيات للتحكم بالشعوب":(كي تسيطر على الجماهير استخدم استراتيجية "الالهاء"التي تقول حافظوا على اهتمام الرأي العام بعيداً عن المشاكل الاجتماعية الحقيقة، أجعلوه مفتوناً بمسائل لا أهمية حقيقية لها،
أبقوا الجمهور مشغولاً... مشغولاً... مشغولاً،لاوقت لديه للتفكير،وعليه العودة إلى المزرعة مع غيره من الحيوانات).
الكاتب
محمد الراوي
31.1.2023