الرّاعيان والعجوز:
من بين الصراعات الأسرية اختلاف الكنّة مع أمّ زوجها الأمر الذي دفع "رابح" إلى البحث عن حلّ للمشكل، وهو الابن الوحيد لوالدته "صخرية"؛ يملك كوخا بمنطقة "حريفيشة" غير بعيدة عن السلسة الجبلية "القطّار" سوى بعشرين دقيقة سيرا بالسيّارة عبر طريق نصف معبّد، يملك سيارة قديمة من نوع "Beugeot404"، يستغلّها لنقل المَواشي ...
وبعد تقليب المشكلة في رأسه ارتمى في حضن نفسه التي أمرته بالتخلّص من أمّه كحلّ وحيد لمشكلته، وما عليه إلّا أن يبحث ويخطّط لتنفيذ فكرته دون ترك أثر؛ أيستعمل بندقية الصيد، السكّين، السيّارة وينسب الفعل إلى القضاء والقدر عن طريق الخطأ، أم الخنق أم ماذا؟.. وأخيرا اهتدى إلى فكرة ...
أخذ زوجته وأبناءه لزيارة أهلها على غير العادة صباح يوم الأربعاء مصطحبا أمّه بحجّة أنّه يخاف عليها إن تركها وحدها في الكوخ، وعاد إلى كوخه مع أمّه؛ وبعد ثلاثة أيام وكان يوم سبت بعد العصر طلب من أمّه مرافقته للإتيان بأهل بيته؛ ركبت إلى جانبه وانطلقت السيّارة تسرع الخطى قاصدة جبل "جدوڨ "؛ وصلا إلى المكان وتفقّده جيّدا ليتأكدّ من خلوّه من الرعاة، فلا أحد يراه خاصّة وأن وقت مغرب الشمس يقترب.. عاد واِدعى أمام والدته أنّه نسي أوراقا مهمّة في الكوخ وعليه إحضارها "أوراق السيّارة" وعليها أن تنتظر عودته إليها؛ أنزلها وطلب منها الجلوس على صخرة هناك، اقترحت عليه أن ترافقه ولكنّه رفض وأصرّ على بقائها والانتظار...
عاد "رابح" إلى كوخه وركن سيّارته في أعلى منحدر ليتسنى له تشغيل محرّكها كالعادة، ثمّ قام بإفراغ الهواء من جميع عجلاتها، وأحرق حذاءه طمسا للأثر الذي يكون قد تركه في المكان؛ ثمّ بدأ يسأل عن أمّه التي غادرت البيت إلى وجهة يجهلها ويبحث عنها رفقة عدد من الناس في مناطق قريبة ومتفرقة دون جدوى من العثور عليها.. عاد الجميع إلى بيوتهم وذهب "رابح" إلى مقرّ فصيلة الدرك الوطني ليبلغ عن اختفاء والدته، أخبرهم بأنّه عاد إلى بيته مساء ولم يجدها وقام بالبحث عنها رفقة عدد من الأشخاص ولم يعثروا لها على أثر، وبعد تحرير محضر الإبلاغ عاد "رابح" إلى كوخه ضنّا منه أنّه نجح بفعلته...
المكان لم يكن خاليا كما صوّر له بل كان هناك راعي غنم يسمى "قدور" في مكان شبه مخفي، وكان يراقب ما يدور أمامه من بعيد؛ السيارة معروفة "Beugeot404" ذات صندوق بغطاء أزرق، وبعد مغادرتها المكان دفعه الفضول إلى الاقتراب فوجد اِمرأة عجوزا في عقدها السابع تجلس على صخرة واضعة يدها اليمنى على خدّها ؛ "مساء الخير لعجوز"، "مساء الخير يا وليدي".. ماذا تفعلين هنا؟، أنتظر عودة وليدي "رابح" ، قال لي: "نجيب أوراق ونرجع لك".. فهم الراعي "قدور" القضية وبأنّه لن يعود وتعمّد تركها في مكان مخيف كهذا؛ ثمّ عرض عليها الذهاب معه إلى بيته والمبيت عندهم تلك الليلة، وعند عودة ولدها سيخبروه بأنّها عندهم.. رفضت مغادرة المكان وهي تردّد "وليدي قال لي نرجع ليك.." تركها الراعي بعد محاولات كثيرة والليل يكاد يرخي سدوله وعاد إلى بيته الذي يبعد بمسافة نصف ساعة، وبعد العشاء ولخطورة المكان الجبلي رجع "قدور" ليلحّ عليها اصطحابه أو يبيت بقربها إلى الصباح.. وبوصوله إلى المكان لم يعثر على العجوز عدا أشلاء متناثرة هنا وهناك ولباسها الممزّق وحذائها البالي؛ أصيب بالذهول وندم كثيرا؛ عاد إلى بيته خائب الرجاء، لم ينم في تلك الليلة ينتظر انبلاج الصبح ليذهب إلى فرقة الدرك الوطني ويبلغ عن الحادثة.. وصل إلى مقرّ الدرك الوطني وأبلغهم بما حدث فاصطحبهم إلى عين المكان بعد إخبار السيّد وكيل الجمهورية الذي أمر بمعاينة المكان وفتح تحقيق حول الحادثة وملابساتها؛ وصلت الفرقة إلى المكان ومعهم كلّ المستلزمات، وبعد البحث عثروا على زر كبير مميّز لـ"قشّابية"، أخذوا أثرا لحذاء ولعجلات السيّارة بواسطة عجينة الجبس، جمعوا في أكياس بلاستيكية الأشلاء والملابس والحذاء ثمّ عادوا إلى المقرّ ...
بعدها تنقّلت الفرقة إلى الكوخ ليتابعوا التحرّي ولما سألوه عن السيّارة اِدعى بأنّها متعطّلة وقادهم إلى مكانها، وبمطابقة الأثر المأخوذ من مكان وقوع الجريمة مع العجلات تبيّن التطابق التّام، وبأنّ غرف الهواء بالعجلات سليمة بعد نفخها بواسطة مضغاط هوائي فيما بعد، وبملاحظة "القشّابية" التي يرتديها تبيّن نقص في أحد أزرارها والمطابقة التّامة بين الزّر الذي عثر عليه في مسرح الجريمة وبقية الأزرار، وبقي الآن البحث عن الحذاء وبعد مدّة زمنية عثروا على بقيّة من الجزء المطّاطي للحذاء في المزبلة وقد احترق بعضه لكنّ العلامات التي يحملها لا تزال ظاهرة للعيان على جزء منه...
اقتيد "رابح" إلى المقر وتمّت مواجهته بالأدلة فأنكر ضلوعه في الجريمة، ثمّ بشهادة الراعي "قويدر" فأصرّ على إنكاره، عرض عليه حذاء والدته وبعض من لباسها الممزّق وعليه دماء.. اِنهار واعترف؛ ثمّ أخذ إلى مسرح الجريمة وأعاد سرد فعلته من الألف إلى الياء...
بعد اكتمال محضر التحقيق الابتدائي وثبوت الأدلة تمّ تقديم المتّهم "رابح" رفقة المحضر الابتدائي للامتثال أمام السيد وكيل الجمهورية لاستجوابه واستجواب الشاهد ثمّ أعطى التكييف القانوني بإدانة المتّهم متلبّسا بالجريمة وذكر المادة من قانون العقوبات، حيث حرّر محضر استجواب وأصدر مذكرة إيداع ليحال المتّهم إلى المحكمة خلال ثمانية أيام...
الكاتب
محمد جعيجع
4.8.2022
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق