الغربال
وكره ضيق والأوساخ تطلي الحيطان... وعلى جدار بيته العجيب، يرسم خط عمودي كل يوم يَقْضِيه مع غربته، وخط آخر لتعداد أيام عمله. فلقد غاصت قدماه في الحدود... كان مزدوج الأنا... إنه جالس على كرسين.
تراكمت عليه الشهور والفصول والألوان والوجوه... لا يعقل من السنة إلا الصيف، زمن الهجرة إلى الجنوب.
عبث العمل بأعصابه؛ كل إثنين له موعد مع عذابه؛ يبدأ شغله مع الفجر ليختمه بعد الظهر؛ والإثنين القادم يبدأ كدّه عند الغروب لينهيه في الهزيع الأول من الليل؛ والإثنين الموالي يبدأ كدحه مع منتصف الليل ليبارحه الصباح؛ اشتبك لديه الظلام والنور؛ إنه الضغط العصبي لروتينية "الثلاث نوبات."
أما عندما يزف فصل لقاء الأحبة، يعدّ رسومه الحائطية ويتوجه نحو مستأجره ليستخلص شقاءه... ويتناول أجره... عندها، يشحن الحقيبة هدايا... ويحل ضيف على أناس يُطعمهم ولا يعرفهم إلا عن طريق البريد.
وفي منزله، يسترد رسم الخطوط من جديد ليحدد الأيام المتبقية من زفافه المُحدث.
ولكن تجري الرياح بما لا تشتهي السفن.
تنكرت له الأبناء. وتلاعبت زوجته بعواطفه وقل مطرها جحدت رغبته ثم هجرت مضجعه... هو المحروم من حرارة الأجساد كل حياته. وتدور السعادة إلى التنكيل... يتساءل: هل سجلوا في دواخيلهم "أني فاسق ديوث" ماله البغي والاضطهاد؟
فهكذا أضحى معزولا بين أناس يزورهم كل سنة مرة.
زرته في مستشفى الأمراض الصدرية. كان يشكو من مرض السل. قص علي آلامه هاذيا:
" عندما أحل بين زوجتي وأبنائي أشعر بنفسي مثل علبة الغاز الملآنة... يفرحون بنوري... تمر الأيام وينخفض الغاز ومعه ضوئي... فينفروني... حينها أشعر أنني قطعة مستوردة...
أُنهى تعداد الأعمدة كالسجين وأحمل الحقيبة مملوءة بروائح الحنين وخيبة الشفاء... وأرحل إلى بيتي الحقير لأضاجع الندى والرطوبة من جديد..
لم أشبع من المناظر... لا جميلها ولا قبيحها وحتى جسدي تُرك أسيرا يتيما... وأَبقى الحَلُوبُ التي لم تُعْطِ كُلّ دَرّها... وأدوم العطشان الأبدي، الفرحان بالقيام بواجبي... حتى تدمير ذاتي...
الشوق من أصعب الأمور عليّا... مميت عندما يكون يحمل ملامح الحبيب... كل يوم يمضي من عمري هو يوما أحتاج فيه أكثر من اليوم الذي مضى للعائلة. كثيراً ما نصاب بخيبة الأمل في الحياة من أشخاص كانوا قريبين منا وأعطيناهم كل ثقتنا، وأعطيناهم من الخير والحب ولكن.. أخذ أنفاسه ... و لكن تعرضنا منهم للأذى.
"كانوا يعاملوني على أني لاشيء وكنت أعاملهم على أنهم كل شيء."
أقول في نفسي قول الشاعر * :
" ابتر منك جزءا فاسدا ليعم سائر جسمك الإصلاح !
ابتر خسيس الطبع لا ترأف به و ستستبد بقلبك الأفراح! "
حاولت عزلهم فلم أقدر...عشرتي لهم أغلى من خيانتهم.
بينما يبقى يمين الغاضب في صدره..
الكاتب
عبدالفتاح الطياري
6.8.2022
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق