اغتراب
جلست أم سعيد أمام منزلها وفي يدها الهاتف المحمول وبدأت تقلب الصور وهي تنتظر اتصالاً من ولدها الأصغر عمر
وسعيد هو الولد الأكبر الذي هاجر مع زوجته وأولاده خارج البلاد ونادرا ما تصل منه رسالة أو إتصال أو حوالة مالية بالكاد تسد الرمق لهذه العائلة
أبو سعيد موظف متقاعد راتبه التقاعدي لا يكفيه ثمن دواء
وعمر ذلك الشاب المقبل على الحياة
لم تجعل منه سنوات الحرب إلا رجلا كهلا يجب عليه أن يتحمل مسؤولية ومعيشة عائلة في زمن الجوع والغلاء
أم سعيد باعت اسوارتها الذهبية التي كانت قد خبأتها ليوم أسود وهي لا تدري أهذا هو اليوم الأسود أم أن هناك أياما مقبلة كاحلة أكثر سوادا وظلمة
قد جاء هذا اليوم الذي أصبح فيه ولدها عمر في سن التجنيد والتجنيد في هذه الحرب الملعونة يعني أن تذهب إلى الحرب ربما تعود أو لا تعود وربما تعود لكن ليس كما ذهبت
ونهاية التجنيد أو نهاية الحرب لا يعلمها إلا الله والراسخون في الحرب
لأنه لا يوجد بارقة ضوءٍ في نهاية هذا النفق المظلم
سافر عمر إلى إحدى دول الخليج التي قبلت دخول الشباب ضمن شروط وضعتها
سافر عمر وترك أهله حتى بلا ثمن الخبز والطعام لكن لا بأس كما قال والده
يا بني صبرك على نفسك ولا صبر الناس عليك
المهم الآن أن تسافر ونحن لنا الله ونسأل الله أن لا يضيعنا
سافر عمر منذ ستة أشهر قضى معظمها وهو نائمٌ على الأرصفة وفي الحدائق العامة
وبعدها تم تأمين عمل بالكاد أجرته تكفي لسد حاجاته
لكنّ عمر كان يقسم ما يأخذه من أجرٍ بينه وبين أهله ويحاول أن يعيش بما بقي له من الأجر
لكن ما يرسله لأهله مع فرق تصريف العملة يسد رمق أهله
كلّ ذلك مر سريعاً في ذاكرة أم سعيد وهي تقلب الصور وتنتظر
أحلام عمر كانت كأحلام أبناء جيله ممن منعتهم الحرب حتى من متابعة الدراسة
كان يحلم بتكميل تعليمه وبوظيفةٍ محترمةٍ وبيتٍ وزوجة وأطفال
لكنها الحرب يا صغيري والتي لا تعترف حتى بالأحلام
وباتت أحلام الشباب في الفرار خارج البلد إلى أي مكان لأن من لم يمت بالحرب مات قهراً على واقعه الذي يعيشه
إنها الحرب التي أودت بحياة الكثير من أبنائنا وجعلت قسما منهم من أصحاب الإعاقة عالةً على أهلهم ومجتمعهم
ونثرت باقي الشباب في بلدان العالم
نجومٌ إنتثرت في السماء ولا ندري أتعود يوما إلى سماء الوطن أم لا تعود
قطع صوت رنين الهاتف هذه الأفكار التي توالت تترى أمام عين أم سعيد وجالت في خاطرها
ليبدأ إتصالاً مقتضب لكنه يحمل شوق العالم أجمع
تكلمت مع عمر سألته عن حاله واكتشفت كذبه وهو يقول لها أنه بخير وتقول في خلدها لا يا ولدي لست بخير وجهك ينبؤني بذلك والسواد حول عينيك يكشف وضعك وقلب الأم يدرك مالا يراه
نعم إنه يحمل هموماً لا تحملها الجبال
ويبادرها السؤال عن أبيه وعنها ودموعها تشي بحالتها وهي تقول أنهم بخير
آه من هذه الحرب الملعونة لا يدري عمر ولا أم سعيد هل سيعود عمر والشباب أبناء جيله من غربتهم ويعودوا لبلادهم ليزرعوها قمحاً وإبتسامات
أم أن هذه الحرب التي لا أحد يعم نهايتها حرَّمت عليهم هذه البلاد
الكاتب
وليد موسى الشريف
4.8.2022
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق