نبض نخلة: الدوامة//فضيلة نويقس

الجمعة، 26 أغسطس 2022

الدوامة//فضيلة نويقس

 مسابقة_اقرؤوا_لتكتبوا

التحدي_الأول...أدب_البحار

الدوامة


      تربعت الشمس على عرش السماء فزادت صفحة الماء زرقةً ونقاءً، وتصاعدت الأبخرة لتملأ الفضاء رطوبةً، هبات رياحٍ شرقيةٍ تدفع بأشرعة السفينة ببطءٍ نحو الشاطيء ، ترافقها دلافين لاهية أدخلت على النفوس فسحةً من المرح.

    كل شيءٍ هادئ؛ هكذا بدت الأمور للقبطان بعد نظرةٍ متفحصةٍ من مقصورته، بدأ له أن سرعة الرياح كافية لوصولهم عند المغيب فقرر عدم استخدام المحرك، ثم عمد لبسط مقعده حتى يساعده على الاسترخاء والتنعم بقيلولةٍ مريحة.

في الزاوية البعيدة؛ كان يستند بكفيه على الحافة، يتأمل تتابع الأمواج في تواتر منتظم عجيب حيث لا قائد ولا مُقاد، كلٌُ واحدةٍ تعرف دورَها ومسارها، لا تحيد عنهما كأنها إيقاع معزوفةٍ موسيقية، طرق سمعه نداء القائم على شؤون الصيادين:

- هيا يا فتى... هذا ليس وقت استجمام.

أغمض عينيه وملأ رئتيه هواء حتى شعر بالملوحة تتغلغل إلى أعماقه، ثم زفره دفعة واحدة، استدار وهو يومئ بالإجابة فانصرف الآخر إلى مقصورة القبطان وعيناه تتابعان كل الحركات على السفينة؛ مجموعة من الصيادين ينظفون السطح، وآخرون يرتقون الشباك، وهناك من يعملون على تصنيف محاصيل الأسماك حسب حجمها ويرصونها بصناديق مع أكوام من الثلج.

دنا بهدوء وأمسك طرف الشباك، فتوقفت الهمهمات الساخطة التي طالما التقطتها أذناه، لبث دقائق معدودات قبل أن يسند إليه أحد الكبار مهمة حمل الصناديق إلى المخزن السفلي، انحنت ظهره عندما وضعت عليها ثلاثة صناديق فزادت من أنين أمعائه المتضورة، تحرك بخطوات مترنحة ونزل درجات السلم يحاول حفظ توازنه حتى لا تقع منه فيلقى سوء العذاب.

مر برواق ضيق تصطف على جانبيه أبواب موصدة حتى وصل إلى آخره حيث وضع الصناديق بحذر شديد فسقطت قطرة عرق من جبينه المحمر، وتسارعت أنفاسه تحاول استنشاق أكبر جرعة من الهواء، مسح وجهه بطرف كمه وقفل راجعا، لكن خطاه سارت بغير وعي خلف الرائحة الزكية التي تخللت أنفه؛ توقف، ثم امتدت أنامله لتفتح إحدى الأبواب فانفتح معها فمه دهشة.

       كان الجميع منهمكًا فيما يفعله، بينما القائد ومساعده يغطان في نوم عميق؛ وجوه أضناها التعب والجوع بعد نفاد المؤونة المخصصة للرحلة التي طالت عن موعدها لحاجةٍ في نفس القائد، يخفي كل واحد تذمره خلف قناع الخوف المزيّن بالرضا، اشتدت سرعة الرياح أكثر فارتسمت علامات البشر على الملامح، سرعان ما تحولت إلى تعابير صدمةٍ من منظر تلك الأطعمة المتنوعة بين يدي الفتى!

- أيها الجياع الكادحون!... هذا جزء من عرقكم ومؤونة بطونكم يتنعم بها صفوة منكم...

تعالت الأصوات والتساؤلات ونظرات الاستفهام فأشار إليهم بكفه مستطردا: 

- هذا غيثٌ من فيضٍ تضجُّ به غرفة المعيشة... لا أعرف كيف بقيت بغير قفل هذه المرة!... ربما هو القدر الذي يريد لكم الخلاص!

قدحت العيون بنار الغضب، وهزت العبارات المتوعدة سكون الأرجاء ممتزجة بصفير الرياح الذي بدأ يتصاعد. هرع القائد مع مساعده إلى باب المقصورة، هالهما المنظر، كأن بركانا قد تحرك من القاع فطفت حممه على السطح! 

حاولا تهدئة النفوس ببعض الكلمات التي ذهبت أدراج الرياح التي اشتد عصفها، بعد ارتباك وتخبط أشار القائد لبعض الواقفين بين الجموع بإصبعي الإبهام والوسطى، فأمسك كل واحد سلاحا مختلفا وشق الصفوف غير عابئ أين يغرسه!

احتدمت المعركة؛ تعاللى الصراخ، تطاير الحطام، تناثرت الدماء والأشلاء، فاسترعت انتباه أسماك القرش المفترسة التي طافت بالجوار دون أن ينتبه إليها أحد، تلاطمت الأمواج الغاضبة بعد تغير اتجاه الرياح غربا كأنما تعزف سيمفونية أشد غضبا، فحوصرت السفينة في دائرة عاصفة.

       في غمرة اشتعال وطيس المعركة انتبه الفتى بأن المياه قد غمرت أرجاء السفينة؛ ركض إلى المقصورة، فاجأه ذلك الدمار الذي أتى على لوحة القيادة، تسمر حين لمح قارب النجاة الذي يحمل القائد ومساعده وقد ابتعد عن مدار الدوامة، عاد إلى الخارج مستصرخا بالجميع، حاثا إياهم على الوحدة من أجل النجاة؛ تضافرت الجهود والتحمت السواعد لساعات عسيرة حتى تمكنت من تثبيت الأشرعة وتجاوز العاصفة.

بعد ساعة من الراحة راحوا يبحثون عن البوصلة دون جدوى.



الكاتبة 

فضيلة نويقس

26.8.2022



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

حروف من الألم//الكاتب فوزي سليم

 #حروف_من_الألم: كيف يكتب القلم.!؟  ما أشعر به من ألم...  على جثث تفجرت ثم صارت رمم......  لم تجد من يخرجها فدفنت تحت الردم. ياأمة تفرقت وتش...