مسابقة_اقرؤوا_لتكتبوا
التحدي_الأول: أدب البحار
عنوان_القصة: العالم وُلِد من رحم سفينة
لا أدري من أي زمن أتيت ولا من أي البلاد.. فهنا وفي خضم ذلك الموج العارم، والبحر الذي من فوقه ظلام ومن تحته ظلام، يبدو لا وجود للزمن ولامعنى له، تماماً كما لا وجود للأرض وكأنه لا يابسة ولاشاطئ بعيد.. هنا لاسيادة إلا لمملكة الماء...
أرفعوا الصارية.. شدوا القلوع.. ولنبدأ التجديف..
هرع البحارة كلٌ إلى مكانه وبدأوا في تنفيذ أوامر قبطانهم المقطب الجبين وكلهم حماسة وأمل أن تجود عليهم رحلتهم بالخير.. جرفتهم الريح معها إلى داخل البحر، حيث لا حد للماء ولا صوت إلا للموج، تعبوا من عد الايام بقدر ما تعبوا من وجبات اللحم المقدد والخبز اليابس والفاكهة الجافة، كانت متعتهم الحقيقة هي الإستماع لحواديت البحر التي لا تنتهي، عن وحوش خرافية تبتلع السفن الضالة وعرائس بحر ممتلئة بالغواية والجمال تسحب البحارة الحالمين إلى القاع وعن قراصنة يجوبون البحار يتصيدون الثروات ويتاجرون بالبشر.
سمعتهم يحكون عن سفن وُجِدت خاوية تتقاذفها الأمواج في عرض البحر بعد أن أفنى المرض جميع بحارتها، وأخرى حطمتها جبال برزت فجأة أمامهم في الليالي شديدة الحلكة، وسفن حملت هاربين وخونة وغزاة، وأحياناً مجاهدين وفاتحين، وملوك بادت ممالكهم، فما أعجب البحر! يحمل الغث والنفيس والجيفة واللؤلؤة..
وفي كل ليلة كنت جزءاً من حكاية.. تارة أجدني فايكنج قوي وعديم الرحمة، وأخرى سندباد في رحلة حالمة، ومرة أمرح مع الأقزام او أتوارى من العمالقة مع جليڤر، أو لائذ بقطعة خشبية خلف روبنسون كروزو تلقي بنا في جزيرة تعج بآكلي لحوم البشر..
أستيقظت من غفوتي على يد قوية تنفضني وصوت أجش ينهرني: أنهض يا فتى ولملم فراشك وقم بتنظيف سطح السفينة.
إنهمكت في تنظيف السطح.. وعندما كانت الشمس تأكل من ظهري تسائلت: ماذا لو كنتُ غلام هيمنجواي( الشيخ والبحر) هل كنت سأرضى بذلك العمل الذي أُعدًَه حقيراً أم أني سأهرب مع سانتييجو ونصنع حلمنا الخاص لنحظى بروح العالم وسر بقائه؟!.. لم أكن أملك الجواب في ذلك الوقت...
وحل المساء سريعاً وأنزويت في أحد الاركان مكدود الجسد، شارد الفكر وقد غشى السماء موجاتٌ من الضباب يتوارى من خلفها قمرٌ باهت، وسرعان ما هبت ريح قوية وعلا الموج وشق السماء برقٌ أرجواني قانِ كأنه لسان الجحيم، فيضئ عتمة البحر لوهلة ثم ينطفئ، وأخذت السفينة تتمايل وبدت كلعبة صغيرة ألقى بها طفل لاه في ذلك البحر الكبير الغاضب، ووجدتني اصرخ بلهجة غريبة: كلٌّ في مكانه أيها البحارة أنا قبطانكم المغامر أبن بطوطة سأجوب بكم البحار وأخوض الأهوال وأصنع الأمجاد!.. لم يلتفت لي أحد.. كان الجميع منهمك في نزح الماء الذي بدأ يغمر السفينة، سكن جسدي قليلاً فعادت الصور تترى أمامي..
أنا خير الدين بربروس ذواللحية الحمراء أنا ملك ذلك البحر، نصير من بقي من المسلمين في بلاد الأندلس.. مغيثهم من الجوع والضعف، من حرضهم على الثورة وأمدهم بالسلاح، في وقت نفض الجميع أيديهم منهم وتركوهم للأسبان لقمة سائغة، أنا القرصان المجاهد، وعندما صرخت: هلموا لنصرة إخوانكم ... وكزني بحار عجوز وقال لي: أرهقتنا بصراخك أيها الغرً اللعين!..
على قارب صيد صغير يتأرجح وسط سحابة سوداء، وماء إنقلب إلى اللون الأحمر، جثث تتناثر من كل صوب، فوهات مدافع، سفن عملاقة تقترب، صراخ حد السماء: يا جموع المسلمين أصمدواااا.. النصر أو الشهادة؛ إنها ذات الصواري وأنا صياد فقير أخذه الحماس وعزم على الجهاد... صرختُ النصر.. النصر أو الشهادة، أصمدواااا... يد صفعتني ففتحت عيناي.. نارٌ في كل مكان سفن تحترق وميناء يتحول لجحيم، إنفجارات تشق عنان السماء، وأنا طفل من لبنان يتشبث بيد أبيه ليقفزا في زورق نجاة، تاركين ورائهم مركب صيد _هو كل مايملكون_ يتحول لكتلة لهب..
أخذ، جسدي يرتعش بقوة وسمعت كلمات متفرقة: يهذي.. الحمى.. أحملوه للداخل، وعندما أنصتوا إلى ذلك الرغاء الصادر مني سمعوني أقول أنا كل هؤلاء.. أنا روح البٓحٓار في كل الأزمنة؛ لن يهلكني البحر لأني ربيبه وصنيعته، أنا ابن حوريته التي تغنيني الآن "قارب صغير يدور ويدور في البحر الكبير " وقد كان ذاك القارب قدري.. قدري الذي عشته آلاف المرات محاولاً سبر أغوار الحياة وكشف سرها، و طمعي الذي أجترحته لحصد خيراتها.
انا البحار.. اول التائهين،وآخر الناجين في تيه الحياة.. أنا!...وهنا شعرت بوهن شديد ينسرب إلى قلبي فتركتُ صوتَ أمي يغشى جسمي كله ويصيبني بأمان لا حد له وكأنه يأتي من أعالي الجنان، وشعرت براحتيها تضمان كفي النحيل، واحد يهدهده وسبابة الآخر تصنع متاهة حلزونية في باطنه،بينما تهمس بحنان "قاربٌ صغير يدور ويدورفي البحر الكبير" وسحبني نوم عميق وكأني لم أزل ذاك الصغير الذي يرتع في حجرها...
الكاتبة
هويدا سالم
26.8.2022
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق