من الريف المغربي :
نُوستَالجيا الأيّام والأمكِنةِ
زخاتٌ مطريةٌ خفيفةٌ تتَساقطُ على براعِمَ أشجارِ الرُّمّانِ والتِّينِ ، زقزقاتُ طيورٍ صغيرةٍ تنتَقلُ من غصنٍ إلى غصنٍ تبحثُ عن مخبإٍ يَقيها في قادمِ الأيامِ ، تستَبشِرُ بمطرٍ يأتي من الشّرقِ عبرَ هبوبِ رياحٍ خفيفةٍ مُحمّلةٍ بغيومٍ موسميةٍ تُنذِرُ بأيامٍ حُبلى بالخيراتِ ...
ضبابٌ كثيفٌ ، يتّجهُ نحو الغربِ ، تاركاً وراءَه قطراتٍ من النّدى على أوراقِ " اللّفتِ " الكبيرةِ ، وعلى نبتَةِ " الجَلبانةِ " المتشابكةِ ، وعلى جنباتِ السّواقِي التُّرابيةِ التي تُحيطُها نباتاتٌ قصيرةٌ تتَجمّعُ عليها مياهُ المَطرِ لتَجرِيَ عبرَها صافيّةً نقيةً نحو حوضِ النّعناعِ ...
في هذا الجوّ الجميلِ ، يَلتجِىء الأطفالُ والكبارُ إلى "سقيفةٍ " تَقيهمْ مِن زخاتِ المطرِ المتساقطةِ ، ليستَمتِعوا بجمالِ المنظرِ المُبهر ، خيوطُ المطرِ كالحريرِ تَمرّ أمامَهم ، تاركةً سيلاً من المياه ، تجري في طريقٍ ترابيّ ، مُشكّلة خيطاً فِضّيّاً ، وقد عمِل الكبارُ على توجيهِها إلى أحواضِ الأشجارِ اليانعةِ بالبَراعمِ ...
ساعاتٌ طوالٌ واقفين كباراً وصغاراً يتَحدّثون عن الخيرِ العميمِ والآثارِ الإيجابيّة التي سيتركُها ذلك المطرُ ، الذي يدومُ هطُولُه وبوتيرةٍ منتظمةٍ أكثر من أسبوعينِ ...
تَخرُج الدجاجاتُ لتلتقطَ بعضَ الحشراتِ التي تخرج بسبَب المياهِ الجاريةِ على الأعشابِ ...
وعلى السطوحِ أسرابٌ من الحَمامِ إقتربَ كلُّ زوجٍ إلى شريكِه ، إستنَد أحدُهم على الآخرِ متلاصقيْن يتحدثون لغةَ الحُبّ ويتبادلون الحنانَ ...
أمّا الحمامُ المنفردُ فيَضعُ رأسَه تحتَ جناحِه ويستغرق في النومِ وقطراتُ المطرِ تُبلّلُ ريشَهم ، وفي الجانبِ الآخر حمامٌ في وكرهِ يحتَضِن بيضَهُ ...
مطرٌ خفيفٌ لا يُحدِث صوتاً سوى خشخشاتٍ على السّطوحِ الترابيةِ ، فترى المياهَ تنزِل عبرَ ميَازيبَ خارجةٍ قليلاً من أطرافِ المنازلِ ، وأغلبُها تكونُ مبنية بالطينِ والأحجارِ ، لتَقعَ في وسطِ مراحِ الدارِ وتلتقي في قناةٍ خاصّةٍ تتّجهُ نحوَ أحواضِ الأشجارِ خارجَ المنزلِ ...
في الوقت الذي يستَمتعُ الرجالُ والصغارُ بهطولِ المطرِ ، تكون النّساءُ في مطبخٍ تقليدي ، يُحضرْنَ الخبزَ " البلدي " مُعتمداتٍ على الحَطبِ لإشعالِ النّارِ ، وبعد الإنتهاءِ من الخبزِ ، يقُمنَ بطهيِ الغذاءِ ...
والغذاءُ عادةً ما يُحضرنَ له ما يُسمّى ب " البيصارةِ " التي تُعتبَر من الوجَباتِ الرائعةِ في فصلِ الشتاءِ ، لتميُّزها بالحرارةِ ، وفي نفس الوقتِ يستغلن بقايَا النّار التّي عادةً ما تكون هادئةً لتسخينِ الماءِ للوضوءِ وإحضارِ الشايِ المُنعنعِ ...
في هذا الجوّ الذي يحتاجُ فيه إلى الحرارةِ يتّجِهُ أفرادُ العائلةِ كلّهم إلى المطبخِ للمكوثِ ساعاتٍ طوالٍ بعد الأكلِ ، وبعدَه يكونُ الإجتماعُ على مجمرِ البيصارةِ فيبدأون في الحديثِ والمسامرةِ الذي يمتازُ بالضّحكِ والنشاطِ ...
الكلّ يشارِكُ في الأمسيةِ ...
وكانت الإستفادَةُ مِن تلك الإجتماعاتِ كثيرة ، فالصغيرُ يأخذُ النصائحَ والحكمَ والعبرَ ...
وبتلك اللمّةِ العائليةِ تتَجدّد أواصرُ القرابةِ والأخوّةٍ والودّ والمحبةِ ، بروحٍ من التعاونِ والإحترامِ المتبادلِ ، ولم يكُن أحدٌ يشتَكي من ضيقِ الحالِ والمآلِ ، وقلّة المالِ !
الكاتب
فريد المصباحي
8.2.2022
رووعاتك💐
ردحذف