قتله العشق
رأيته قادماً من بعيد، يثير حوله سحابة كبيرة من الغبار بعد أن ضرب الأرض بقدميه الخلفيتين وكأنه يتهيأ للقفز، أعرفه منذ أن كنا مجرد صغيرين نركض في الحقول بغير تلك القيود اللعينة التي تطوق رقابنا الآن، وأعرف أنه عندما يقوم بهذه الحركة التي كادت تسقط سيده أنه في غاية الضجر والحنق ، في العام الماضي كان يعشق... اسمعكم الآن تتعجبون آنى لحمار أن يعشق.. هكذا أنتم البشر! مغرورون دوماً، تظنون أنكم الكائن الوحيد الذي يمتلك قلباً ولكني أقول لكم: هل يُجيدٓ العِشقٓ إلا الحمير؟! فنحن نمتلك عقلاً أقل منكم بكثير ولذلك نتوغل في متاهات العشق أكثر منكم بكثير!
إليكم عن هذا الهراء الآن ودعوني أكمل حكايتي...
كنا معاً عندما رآها للمرة الأولى بيضاء بعينين شديدتي السواد والاتساع وشعر يتطاير نعومة يكلل رأسها كتاج، تسير خيلاءً بقوامها الممشوق ورقبتها الطويلة، ومنذ ذلك اليوم لم يكف عن الوقوف صافناً كلما رآها حتى يباغته سيده بوكزة ليواصل السير
في كل ليلة كانت تأتيه في أحلامه تنظر له وتركض في حقل أخضر شاسع فيمضي الليل يحاول اللحاق بها ويستيقظ لاهث الأنفاس مفطور الفؤاد..
ملعون هو الشوق!
بات جُل أمله أن يلتقيها كل صباح بينما يذهب سيداهما إلى الحقول فينعم بالنظر إلى عينيها أو تناول الكلأ معها... ومنذ أشهر؛ غابت، غل الحزن في قلبه وطال انتظاره لأوبتها، كره الطعام ورفض كل الإناث التي عرضها عليه سيده، ذوي جسده وسرت نيران الشوق فيه كما تسري النار في الهشيم فأخذ يبحث عنها ويسأل كل إخوتنا ومنذ أيام قلائل أسره أحدهم أنها بيعت إلى غريب يقطن الضفة المقابلة من النهر..
ولوهلة خطرت له فكرة! ماذا لو عبر إليها النهر وفر بها إلى البراري البعيدة؟! ولأنه حمار عاشق لم يتوان عن تنفيذها!.. ولذلك عاده حب الحياة وطفق يأكل ويرفع صوته بنهيق فرح يرج الانحاء، وقال لي إنه عزم على اللحاق بها...
_سأعبر النهر هذه الليلة!
= كيف وأنت لا تجيد السباحة
_سأخوضه مثلما رأيت البقرة تفعل ذات يوم
وسيدك.!
_إلى متى سنرسف في أغلال السادة الذين سلبونا كل شيء ؟!
وللحظة ظننتُ أنه في طريقه لاجتراح معجزة!
وعندما حل المساء وآوي السادة إلى مخادعهم، قضم قيده وصارع إلى النهر غير مبال لعواء الذئاب أو لوحشة الليل، فلم يكن يرى إلا عينين سواداوين ووعد سعادة وحب ينتظره على الضفة الأخرى .. القى بنفسه في عباب الماء وبدأ يحاول العوم أو الخوض ولكن يالعمقك يا نهر الهوى!...
فلم يبتعد كثيراً حتى مادت الأرض من تحت قدميه وأخذ يصارع الغرق... أصمد! عيناها هناك تنتظر... أصمد! شعرها الناعم يهفو إليك... توغل أكثر في الماء... ها هي تركض معك للدغل البعيد... ودونما شعور باغته الماء إلى رئتيه.. خبط بأقدامه، حاول الارتفاع، جذبه الماء أكثر ، امتلأت بطنه به، لم يعد هناك مكاناً للهواء.. ثم لم يعد. يعي أي شيء...
ــــــــــــــ
وفي الصباح عندما نزلت الفتيات ف النهر ليملأن جرارهن ويغسلن كعوبهن الحمراء الناعمة... وجدنه ملقى وسط كومة حشائش .. صرخن فرقاً وربما قرفاً.. وعندما حضر على صراخهن بعض الفتية الذاهبون إلى الحقول وربما المتلصصين عليهن من خلف الأيكة القريبة...نظروا إليه ومطوا شفاههم ومضوا إذ من سيعير حمارًا قتله العشق إلتفاتاً.!...
الكاتبة
هويدا سالم
8.2.2022
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق