الحنين
هناك وراء البحار في ليالي كانون الباردة ، خلف نافذة الشوق كان الهدوء يخيم على المدينة فتحها ليشتم بعض الهواء بدأ يدندن ، (ورقو الأصفر شهر أيلول ..تحت الشبابيك
ذكرني ..ورقو ذهب مشغول ..ذكرني فيكل) ؛ ثم توقف فجأة عن الغناء ، نظر إلى الحي فوجده هادئا كأن المدينة خالية من سكانها لحظتها زاره الحنين ليعود إلى حيث ينتمي ، قاطعا كل تلك المسافات والدروب ، تذكر كيف كان صوت الباعة المتجولين و الضجيج المنبعث من كل مكان ، تلك الأصوات تزعجه كثيرا ولكنها كانت تشعره بالحياة .
أغلق النافذة ، وعاد إلى فراشه ، ألقى جسده المنهك عليه ، وحيدا قضى عامه الأخير ، بعد وفاة زوجته بمرض عضال .
عانى الرجل الكثير الوحدة ومرارة الغربة ، وظل يفكر وكأن هناك قوة عظيمة تجره للعودة وللحنين إلى الوطن ! الوطن الذي لا نجد الدفء إلا في حضنه فإذا رحلنا عنه شعرنا بغربة الروح تخنقنا ؛ عاد بذاكرته إلى اليوم الذي غادر فيه .
ليلتها كان البرد قارص جدا ، بساط أبيض يغطي المكان حيث كان إبراهيم يتأهب لركوب الطائرة التي ستقله لبلد الأحلام
الجميع هناك منهمك بترتيب أوراق سفره ، من فرط غبطتهم لم يشعروا ببرودة الطقس ، مستبشرين خيرا بهذا السفر الطويل إلى المجهول وأملهم السعي لحياة أفضل.
رغم انه كان عاشقا لأرضه وأرض أجداده منذ نعومة أظافره ، يخدمها بكل حب وتفاني وكان الرزق وفيرا ، سمع الكثير عن الحياة بالخارج من أصدقائه وقرر أن يخوض التجربة بنفسه ، استعجل الرحيل وترك كل شيء ورائه .
مر على غيابه زمن ،لم يسأل كيف حال أشجار الزيتون وتلال الكروم وحقول البرتقال لم يسأل حتى عن أمه الخالة عيشة التي أضناها الشوق والحنين ؛
ابن البلد لم يعد يسأل ، ذلك الراحل عبر البحار ،أخذته المسافات حيث اللامكان .
عشرون عاما انقضت منذ حزم إبراهيم أمره وقرر الرحيل ،
الأم تنتظر عند كل غروب وتأمل عند كل شروق عودت الابن المهاجر بلا عنوان ، إحساسها يخبرها أنه سيعود لأحضانها في يوم من الأيام لتشبع و ترتوي من رؤيته.
ذات صباح بينما هي تجول بين الحقول سمعت أخبار من أفواه العائدين من هناك ، تقول أن إبراهيم ابن عمي أحمد يعزم على العودة بعد أن فقد الأمل بالرجوع ، يقولون أنه أضاع أوراق الهوية والإقامة هناك ، ربما صحيح أو لا العلم عند الله ..
ليبقى بين ضلوعه قلب يخفق لحب الوطن ، يصله به دون قيود , تظل له أنغام تتناسق مع طلوع فجره وسطوع شمسه ، مع تغريدة تلك الأنثى الجميلة التي تعزف ألحانا شجية لتسمع صوتها للملأ .
إنها هناك ،،،،،فاتحة ذراعيها لقدومه ، فتحت له نافذة الحب لتستقبله بنسماتها الدافئة في عز الشتاء ، هل تراه سمع صوت النداء يرحب بعودته ؟!
حب البلد يخترق الأنفاس ويجري في العروق مجرى الدم يصارع طواحين الهواء بين لوعة قلب جذوره تمتد في أرض الأجداد ، إنه الوطن الأم ، الأمن والأمان ، والكرامة والعزة ،
حضن يضم وقلب يخاف ، ليزرع في أبنائه الحب ليزهر كرامة وشرفا .
سمع أهل القرية جميعهم بالخبر ، سارعت خالتي عيشة من لهفة اللقاء لنصب المنسج والسداية لتنسج أحلى برنوس من صوف الخروف الشديد البياض ليكون هديتها للابن إبراهيم حين وصوله ، لتفتخر به أمام أهل القرية ويكون فارسها الأبيض الذي طالما حلمت بعودته سالما معافا .
ذهب الجميع لأستقباله ، رست الباخرة المقلة للمسافرين
وكم كانت الفرحة بادية على الوجوه حاملين باقات الأزهار
منتظرين خروج إبراهيم ،،،،،،ها هو مقبل نحوهم ، تغيرت ملامح قليلا وظهرت بعض الشيبات في رأسه لبس البرنوس من يد أمه ، احتضنته باكية ،لا تتركني بعد اليوم أبدا يا ولدي .
قال : لقد حان موعد العودة لأكون بقربك وأعوضك سنين التعب والشقاء ، واخدمك وأخدم أرضي بروحي ودمي ؛
يكفي ما عانيته في غربتي ، أنا ابن هذه الأرض أمي ، وأرتويت بطهرها ، وأطعمتني ثمارها ، واحتضنتني رمالها ، وفرشت لي ظلالها فكم تغزلت بجمالها وداعبت ثراها
أعشقها وأموت فداء لها .
الكاتبة
جنى محمد الشيباني
23.2.2022
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق