قدر محتوم
خيم الظلام وأتت الرياح بما لاتشتهي السفن...
فقد هبت العاصفة مبكرا عن موعدها قليلاً وهاهو "فريد" مازال بمركبه المتهالك في عمق البحر يطارد أحلامه من بين الشباك عله يغتنم صيدا وفيرا يمنحه أجرا يعينه على السفر من قريته البائسة تلك، ولكنه الآن يصارع أمواجاً عاتية في معركة ليس أهلاً لها بضآلة حجمه وقلة خبرته وتسرعه هذا الذي دائما مايوقعه بالمشاكل، فقد حُذر من العاصفة ولكنه لم يكن يوماً حكيماً.
تعصف الرياح وتثور المياه من حوله، وترعد السماء ويأتي البرق لينزع قلبه خوفا.
أنهكه صراعه والأمواج المتلاطمة لينقلب القارب به وتتقاذفه الأمواج وكأنها تلقنه درسا يحاول أن يسبح ألا يغرق ولكن الأمواج أعتى من مقاومته الضعيفة خارت قواه واستسلم اخيرا مرغما.
تلفح الشمس وجهه وهو ملقي على شاطئ رملي يستعيد وعيه رويدا ينظر حوله في تعجب مما يري غير مصدق أنه نجا من موت محتوم
رمال سوداء ناعمة تلمع في ضوء الشمس... شمسها دافئة، وضوءها أبيض
أشجارا وافرة متناثرة على الرمال وعلى امتداد بصره يرى جبل شاهق الأرتفاع ذو لون أحمر غريب ويشقه شلال ماء وكأنه ينهمر من بين السحاب "سبحان الله" يقولها مشدوها وهو يمشي بين الأشجار مختلفة الألوان
وفجأة شعر بحركة خلفه تلفت حوله ولكن ليس هناك من أحد
جزيرة عجيبة خالية ليس بها كائن حي محدثا نفسه بحيرة
أنهكه السير فجلس يستظل بإحدى الأشجار ويفكر في حال والدته وكيف أحثته على عدم ركوب البحر ليلا وقت العاصفة ولكنه كعادته لم يستمع لها ولم يقنع بكلامها الذي يُثبت صحته دائما.
بحركة مباغتة تحركت من خلفه الشجرة فزع وتقهقر زحفا على الرمال وإذا بالشجرة تتحرك خرجت منه شهقة مدوية أزعجت باقي الأشجار وكأنهم استيقظوا فزعا عندما رأوه حاول أن يكتم صوته علهم لا يهتدوا إلى مكانه.
_من أنت؟ وكيف جئت؟
تلفت حوله منزعجا يحاول أن يعرف من أين يأتي الصوت...
_ أنا هنا أمامك خضراء هو اسمي ما اسمك؟!
نظر أمامه في ذهول ومازالت الصدمة تلجم لسانه...
_أعلم أنك تفهمني وتسمعني وأنك من أرض غير أرضنا فكيف جئت ولما؟
نطق أخيرا بتوتر:
اسمي "فريد" ركبت البحر ليلاً وإذا بعاصفة هوجاء أغرقت قاربي وكدت أغرق ولم أشعر بنفسي بعدها إلا هنا وقد أشرقت الشمس.
أنا من قرية الصبر جزيرة سكانها من الصيادين نعيش على ما نصطاده.
لا أعلم كيف وصلت جزيرتكم ولا أعلم من أنتم؟!
_هون عليك يافريد أنت في جزيرة الخلد ونحن أشجار الحياة.
أما كيف وصلت فالله أعلم، ولكن الأهم أنك جئت وطالما أنت هنا فهناك حكمة ولابد أن شجرتنا الأم تعلمها فصاحبني إليها.
بخطوات منتظمة كانت تمشي خضراء «الشجرة» ويتبعها فريد حتى وصلوا لشجرة عظيمة الأفرع والأوراق تقع في منتصف الأرض وتمتد على مسافة كبيرة...
ما أن وصلوا ودون أن ينطق أي منهما بكلمة...تكلمت الشجرة الأم مرحبة:
_أهلاً بك "حارس البحر"
اسمي فريد قالها مصححا
شعر أنها تبتسم رغم أن ليس لها ملامح وقالت:
_ليس المهم هو اسمك...
المهم أن تكون نفسك...
والأهم أن ترضا بقضائك حتى تعلى كلمة الله في الأرض...
فنحن كائنات الله في الأرض وحكمته التي تستقيم بها مملكة الرب.
يقف فريد متفكرا فيما تقول ولكنه لا يفهمها.
تقرأ ما يفكر دون أن يتكلم... فتسأله:
_أتعلم من أنت؟
أنا فريد المتولي من قرية الصيادين.
_سألتك من أنت لا ما اسمك.
أسمعني يافريد إن كلا منا له نصيب من اسمه فقد خلقنا الله ووهبنا أسمائنا لا أبائنا كما تعتقد أن اسمك يكتب مع ميلادك...
اسمك قبسا من روحك دليل الحياة فيك.
فأنت متفرد فلن يمنحك البحر سر وجودنا إلا لحكمة يعلمها الله، وهي أن تتعلم كيف ترضى بقضائك ولن ترضى إلا عندما تعلم مغزى وجودك وسببه... كما قلت لك أنك فريد أحد أسرار الحياة فقد منحك الله صفة حارس البحر تحمي أسراره وتجوب شطآنه تنفذ مشيئته بأمر الله.
*لا أفهم لما أنا ولماذا؟!
_أنت من نسل الحراس فالله قد خلق أكوان عديدة وكائنات كثيرة وأخفى سرها عن بعضهم حتى يحين وقت أن تنجلي الحقيقة بإذن الله.
لا أعلم دوري ولا ما هو مطلوب مني لا أؤمن به وبنفسي.
_كل ماعليك فعله الآن هو الإيمان.
فالإيمان نجاة.
ولكني مؤمن بالله.
_إذا لتصبح مؤمنا عليك أن تؤمن بقضائه وجميع خلقه وحكمته اغمض عينيك ودعني أريك شيئا.
أغمض عينيه ودعها تأخذه في رحلة
(رأى شابا يحاول الانتحار برمي نفسه من فوق كوبري وبالفعل ألقي بنفسه ثار وحاول إنقاذه ولكنه محض صورة هلامية لا تأثير لها.
ولكنه تبعه حتى وجده وقد فشل في مسعاه، وجلس يبكي وينتحب مرارة عيشه وكيف أن حياته بلا معنى فهو اليتيم خريج دار الرعاية المنبوذ اجتماعيا كيف له أن يحيا بين قلوب كجلمود صخر لا تشعر ولا تمنح الحب؟! كيف يحيا في عالم فقد إيمانه وأصبح قاسيا؟!
وإذا به يسمع أنيناً صادراً من خلفه وكان فريد يتابع المشهد كما السينما سيدة عجوز ترتعد برداً يبدو عليها الوهن والمرض ذهب إليها الشاب وبعد حوار طويل ضمته وكفكفت دموعه بضعف، ليحملها لأقرب مشفى وهناك وجده يحدث نفسه أن الله قد منحه عمراً جديد ليس لأجله إنما لأجل تلك السيدة المشردة فنحن أسباب خلقنا الله لنعلي كلمته.
ما أن أنهى ذاك الشاب حديثه حتى عاد فريد لهيئته أمام الشجرة وقال لها بابتسامة رضا:
أنا أعلم الآن مغزى وجودي وأعلم أن مكاني في قريتي حتى أكون قريبا من البحر أنفذ مشيئة الله بحمايته من أن يجور بها الإنسان فقد فطر على الطمع وأحمي كنوزا وكائنات تحتاج وجودي لأكون مرشدا ودليلا.
_لقد حان موعد رجوعك يابني وسوف أصحبك دائما وستسمع صوتي أينما كنت، والآن عد لقاربك.
نظر نحو الشاطئ ليجد قاربه قد رسى...
فيقول:
أن كل شيء
بميقات معلوم فسبحان عز وجل.
الكاتبة
رحمة أحمد
28.2.2022