رابطة الأجيال
منذ الليلة الفارطة ،لم يقم بتعديل المنٌبه كعادته على هاتفه.
لا يدري هل لحسن حظّه أن يصادف اليوم الموالي العطلة الأسبوعيّة،أم أنٌ الأمر غير ذلك.حدٌق مليٌا في الهدايا المكدٌسة بقاعة الجلوس.ركّز على صورة بعينها .
أهداها له أصغر الموظٌفين سنّا.ألتقطها بتلقائيٌة ولكن بحرفيٌة.بدت له أكثر من معبّرة،وهو يقف وسط زملائه الجدد يحثّهم على البذل في يومهم الأوّل بعد الاحتفاء بانتدابهم.
بلحيته الٌتي زحف عليها البياض،وتجاعيد ظاهرة للعيان على الوجه والجبين،مع تقوّس خفيف للظهر ،بدأ الإعياء ظاهرا على محياه.
لم ينم ليلتها.عادت به الذّاكرة للايّام الخوالي.
المكتب الصّغير ،تتوسّطه طاولة قديمة بلا غلاف.نافذة صغيرة في الرّكن .أكداس من الملفات بالخزانة الحديدية بجانب الباب.
غبار يغزو جلّها.غرفة المدير مقابلة للموظف الجديد.رواق طويل يؤدي لقاعة فسيحة مخصصة لتقبّل الشّكاوي .كامل المرفق بلا تكييف ولا تدفئة.ازدحام بالرّواق ،وطابور طويل يمتدّ خارج المؤسسة.قاعة الانتظار بكراسيها القديمة لا تستوعب طالبي الخدمة .
عون الاستقبال يجد صعوبة في إقناع الزّوار
بالصّبر واحترام بعضهم البعض وهم ينتظرون دورهم. المروحة الوحيدة المثبّة وسط البهو
بدت حالكة السّواد .جحافل الذّباب لا تغادرها ليلا.أحيانا تحدث صوتا مزعجا،يشبه الصّفير وجلّ ساعات الدّوام صيفا يصيبها العطب.
نزاعات،وتوتر ،انسجام حينا وخلافات أحيانا أخرى.العطل الصيفيّة ،غالبا بلا طعم،وبلا متعة.مرتب لا يكاد يغطي احتياجات أسرة تتجدد وتتعدد مطالبها.مصاريف دراسة الأبناء لا تنتهي.بلا مسكن ولا سيٌارة، وأجرة تقاعد زهيدة ،وأبناء تخرجوا بعد معاناة واجتهاد،بلا شغل.مصاريف العلاج وغلاء المعيشة تنتظر المتقاعد الجديد.
سيتوقف هاتفه عن الرّنين.
تناول قهوة الصّباح ،كعادته ،بالمقهى المقابل للإدارة.غبط زملاءه وهم يحثٌون الخطى نحو مقرّ العمل. همّ بمغادرة المقهى وهو يراقب التّوقيت بهاتفه.ضحك النّادل ومازحه..
_ترجل أيّها الفارس...آن لك أن تتمتع بالرّاحة بعد عقود من العمل والمواظبة.
طأطأ فارس رأسه ،وعاود الجلوس.طلب قهوة ثانية.في الطّاولة المقابلة، تحلّق بعض المتقاعدين ممّن سبقوه في إنهاء مسيرتهم المهنية منذ سنوات.
شحوب يبدو على جلّهم.
صحف الصّباح غالبا ما لا تصل الجهة.
لعبة ،'الديمينو ' أو الورق هي بديل هؤلاء لتمضية الوقت.ساعات،أيّام سنوات،تمر رتيبة .
بشجاعة ،ألقى فارس التّحية ،وأخذ مقعدا يتوسّط زملاءه الجدد،الذين رحبوا به بحرارة.بجرأة ،فاتح الجماعة بما يختلج بصدره .
_شكرا لحفاوة الاستقبال ..من اليوم،سنبدأ مشوارا جديدا،جمعيتنا ،
سنغير بها نسق حياتنا.سنتمتع مستقبلا بحياة جديدة.لنودّع الملل ،والاكتئاب .
سنسافر،سنمارس أنشطة متنوعة،ترفيهية ورياضيّة.سنكون قوّة اقتراح في مجالات عدّة.سنعتني ببعض الحدائق،وننظم الأرشيف ببعض المؤسّسات .كل منابحسب اختصاصه سيمد العون لمن يطلب ذلك من الموظفين بمختلف الإدارات والمنشآت..
تشجع ميلود،أقدم المتقاعدين في الجلسة
_بارك الله فيك،ما أحوجنا لأمثالك..فعلا جميع من حولك يرفض مقولة،مت...قاعدا.
بالإمكان بدء حياة جديدة بعيدة عن العمل.
كل منّا قدم ما بوسعه طيلة مشواره المهني...ودوام الحال من المحال...علينا تقبّل ذلك..لنعتني بأنفسنا ،ونستمتع بما كتبه الله لنا بقيّة العمر..
_فعلا،علّق عبد المجيد،ليست نهاية العالم أن تحال على شرف المهنة...انتهت مرحلة،ودخلنا في أخرى.فقط علينا حسن استغلالها فيما يفيدنا ومن حولنا بحسب استطاعتنا...
ثمّ هاتف على الفور ابنه البكر ،شفيق ،اللذي حلّ بالمقهى على جناح السّرعة.المهندس الشاب متحصل على الإجازة في الإعلامية ،متخرج منذ سنوات.معطل عن العمل.يجتهد بمبادرة خاصة وبحسب إمكانياته وعلاقاته في مجال التّجارة الألكترونيّة.طرح موضوع إنشاء صفحة على إحدى مواقع التّواصل الاجتماعي تجمع للمتقاعدين ..تثار فيها مشاغلهم واهتماماتهم وكيفية الاستغلال الأمثل لأوقاتهم...مشاريعهم
و برامجهم. ابدى الشّابٌ استعدادا لإنجاز المطلوب من الغد،نظرا لانقطاع خدمة الانترنيت بالمقهى.
اجتماع حاشد بالمقرّ الجديد للجمعيّة.
لافتة ضوئيّة،كبيرة الحجم ثبتت فوق الباب.
لافتة ترحب بالضّيوف.حضور كثيف ،والفرحة تبدو على ملامح الجميع.
الاجتماع التّأسيسي،والكلّ متحمّس للمشروع.
الكاتب
صلاح لافي
30.1.2022
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق