ذات حنين
"على الأخوة المسافرين على متن الرحلة 737 التوجه الى البوابة 4"
أيقظه صوت المضيفة من سباتٍ عميقٍ،
جمعَ أغراضه القليلة،
معطفه الملقى على ظهر الكرسي ومظلته الشمسية
وحقيبة سفر متوسطة الحجم أنيقة المظهر،
شكلت له هذه الأشياء في مجملها مع مظهره الأنيق هالة من الاحترام والتقدير والمعاملة الجيدة
التي صاحبت وجوده أينما حل منذ وطأت قدماه أرض وطنه.
طوق خصره بحزام الأمان وأرتمى بجسده الى ظهر الكرسي و أرتحل بفكره مرةً أخرى عن عالمه المحيط به.
"كم ستحتاج من القوة لفعل ذلك؟"
هكذا سألته زوجته وهو يعدُّ العدة لهذة الرحلة.
"اطلب من مكتب محاماة أن يتولى عنك هذا الأمر."
أجابها بنصف ابتسامة: وهل سأطلب منهم أيضا زيارة قبر أمي وأبي عني؟"
************
"نهنئكم على سلامة الوصول"
استفاق من غفوته على صوت المضيفة،
لايدري كم مرَّ من الوقت،
ولكن برغم تلك الاغفاءة فأن الأفكار والمخاوف لم تفارق رأسه البتة.
هذا الشعور الخفي
بالخوف والرهبة
والغضب والسخط
والحنين حالَ دون أن يلتفت إلى التغيرات التى طرأت على البلد منذ، هروبه منها في منتصف الثمانينات.
يالله مرت ثلاثة عقود ونيف
منذ خرج منها فاراً مطارداً
بجرم سياسي منعه من ولوج البلد،
بقرار أمني.
أعاده شريط الذكريات إلى تلك الفترة المقيتة من حياته،
ذاك الذنب اللعين الذي،جعله مطارداً ومطروداً.
وحرمه من رؤية والديه أو توديعهم إلى مثواهم الأخير قبل سبع سنوات.
**********
نظر إليه سائق سيارة الأجرة من أسفل قدميه إلى أعلى رأسه
ثم هزَّ راسه في بلاهة وسذاجة واضحتين قائلاً:
"عفواً هلا كررت العنوان ثانية؟"
لم يشأ سائق سيارة الأجرة أن يصدق أن هذا الرجل الغريب بكل.
أناقته وعطره النفاذ يقصد تلك القرية الصغيرة القابعة في أحراش الجبل.
انسابت السيارة بسرعة على الطريق الساحلي
وكأنها احستْ بشوقه الخفي الذي يطويه بين أضلعه
لرؤية مرتع طفولته وشبابه فشاطرته بسرعتها ذلك الشوق
والحنين.
ترجل عن السيارة في بطءٍ شديدٍ في أقل من لحظة مسحت عيناه ملامح قريته والتهمتها في نهم حقيقي،
تغيرت كثيراً عن ذي قبل لكنها برغم ذلك لم تفقد شيئاً من عفويتها وبساطتها،
في تلك اللحظة تمنى لو أنه استبدل ملابسه الفاخرة بأخرى أكثر بساطة وحميمية.
انتعشتْ أشواقه،
واشتعلتْ مشاعره،
و أستيقظ حنينه الكامن بين ضلوعه،
تذكر طفولته الممتزجة بتراب القرية،
تذكر أقرانه ،
وفتاته التى أحبها منذ كان طالبا على مقاعد الأعدادية.
_"هاني"
إلتفتَ إلى مصدر الصوت لم.يكن ليخطئه أبدا برغم كل هذه السنون.
هي لحظة أحس فيها بقشعريرة كريهة،
تذكر قوات الشرطة وهي تحاصر منزلهم فجراً،
للقبض عليه،
تذكر خوف أبيه وهلع أمه ،
وارتجافات أخواته الصغار وذعرهم من جنود.المداهمة.
وخذلان أهل القرية ووشايتهم،
وكذبهم وادعائهم،ورفضهم حتى حضور،جنازة والدي "الخائن"
كما كانوا ينعثونهم دائماً.
ذكريات هزته بعنف؛
وأيقظته بقسوة.
استقل السيارة وتجاهل في غلظة ذلك الصوت الذي،يناديه،
ألقى رأسه على زجاج نافذة السيارة،
تابع الأشياء والكائنات
وهي تتراكض في جنون متسارع
من حوله...أغمض عينيه........ورحل!
الكاتبة
أم ميسم
21.6.2021
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق