نبض نخلة: ذاكرة نسيان //الكاتبة إكرام التميمي

الأربعاء، 23 يونيو 2021

ذاكرة نسيان //الكاتبة إكرام التميمي

ذاكرة نسيان

مع أول سقوط للأمطار تعاودني الذكرى كل عام، وكعادتي استيقظ صباحاً مع أذان الفجر، أتوضأ للصلاة وأصلي وأجلس فوق سجادتي أتلو بعض الآيات القرآنية وبعض الدعوات له وللجميع ثم اختتم بالصلاة على رسول الله .
بعد ذلك أقوم بصنع فنجان قهوتي الصباحي وأجلس قرب النافذة أطالع الأخبار وأتصفح بعض الصفحات على هاتفي ومع كل رشفة ترافقها نظرة تأمل للخارج قبل أن أبدأ بممارسة أعمالي المنزلية .
وكنت كالعادة أنتظر بفارغ الصبر رسالة الصباح من ولداي فلذة كبدي أحمد الصغير الذي يبقى صغيراً في نظري مهما كبر ، لقد بلغ اليوم الرابعة والعشرون من العمر.
في اتصال هاتفي قال لي : يا لها من سعادة أن يبتسم لك القدر يا حبيبتي !
أخيراً لن تعاني الوحدة والضجر بعد هذا اليوم يا أمي !!
قريباً سأنهي دراستي وأعود كي أعوضك عن تعب السنين يا أمي .
هذا ما قاله لي منذ أيام .

وفي يوم من أيام الشتاء الباردة كنت أنتظر رسالته بفارغ الصبر كي استعيد نشاطي للبدء من جديد، فحديث الصباح مع من تحب مع من يهتم لأمرك وتهتم لأمره هي متعة ليس بعدها من متعة هي سعادة ترقبها، ودفعة من الأمل تمنحك أوقاتاً سعيدةً تعيش عليها لباقي يومك حتى وأن كانت لحظات قليلة .
أخذتني تنهيدة الصباح بعيداً عن عالمي، فلا بد أن شيئاً سيئاً قد حدث له، لقد تأخَّرت رسالته لهذا الصباح ، و أزداد خوفي واضطرابي عليه، ترى ماذا حدث له؟
بدأت أنظر لهاتفي حينا ولساعة يدي حيناً آخر .
بدأ القلق ينتابني ويأكل حشاشة قلبي ، وسرعان ما تأخذني أفكاري بعيداً، هل حصل له مكروه ؟
ثم استعذت بالله من تلك الأفكار التي تراودني ، حاولت أن أضع له المبررات، لعله انشغل بأمر ما، لم أستطع المكوث في مكاني، فحاولت أن أبعد تلك الوساوس عني فاتجهت إلى المطبخ لصنع فنجان قهوة آخر وجلست قرب النافذة احتسيه، وأنا انظر بعيداً وأرمقُ المارة في الشارع .

أصبح الجو رائعاً ينبئُ عن احتمالية سقوط الأمطار في أول سقوط له هذا العام ، فإذا برسالة الصباح تصلني سررت بذلك كثيراً فها هو يرسل لي تمنياته بأوقات سعيدة، ويطمئن على صحتي ويخبرني عن تأخره في الرد لظروف قاهرة وأنه سيحادثني هاتفياً في المساء، كنت سعيدة أنه بخير .
بدأ تساقط الأمطار للمرة الأولى هذا العام وكان المنظر جميلاً جداً أعاد لقلبي السرور والفرح، أخذتُ أجري خارجاً كي أقف تحت زخات المطر كي يغسل معه أحزاني ومتاعبي كما يغسلُ شوارع مدينتي.
كان الجميعُ يسرعُ الخطى للإحتماء من قطرات المطرإلا أنا كنتُ فرحة بها كطفلة صغيرة .

تذكرت حينها أنه أخبرني أن أدعو له ببقاءنا معاً كي تتحقق مع أول سقوط للمطر .
كنتُ أدعو فرحة، وهو يضحك لفرحتي،
أكملت يومي بسعادة لا يعكرُ صفو سعادتي شيء .

وبعد أيام أشرقت شمسُ الصباح، أنه يستعدُّ للعودة بعد أنهاء الدراسة يومها تصفحت هاتفي كي أسمع صوته كما اعتدت يومياً، ها هو لم يرسل لي كعادته، انتابني القلقُ مرة أخرى، انتظرته طويلاً، أو هكذا بدأ لي يومها، لم أشأ أن أدخل الوساوس إلى قلبي، لكنه لم يرسل لي شيئاً يطمئنني به، انتابني الخوف والفزع، فغداً موعد وصوله من السفر ، أرسلت له عدة مرات لكنه لا يجيب ، لا أعرف ماذا أفعل .
بكيت بحرقة ، كيف يتركني هكذا دون أن يحادثني ؟ انتظرته كثيراً وغلبني النعاس لا أدري كيف نمت يومها .
في الصباح أول عمل قمت به تفقد هاتفي لعله أرسل لي وأنا نائمة، فخاب ظني هذه المرة .
فتحت التلفاز وهالني ما سمعت فقد سقطت الطائرة القادمة من ألمانيا حيث كان يدرس ولدي، بكيت بحرقة فقد أيقنت عندها وفاته وها هو قد رحل ورحلت معه سعادتي فأغمي عليَّ عند سماع الخبر .
لم أفق حينها إلا على صوت قرع جرس الباب فإذا به يقف على الباب ويقول :عذراً أمي لم استطع إبلاغك أني غيرت تذكرة السفر في آخر لحظة ، سامحيني .
حينها دخلت الجارة تبكي وقالت لي: سمعت الخبر في التلفاز فأردت أن أطمئن عليكِ يا مسكينة.
كانت الدموع في عينيها تنهمر كما ينهمر المطر وتقول جنت المرأة .
لم أدرك ما يحصل حولي حينها ، فها هو ولدي ..
لم يعد وها هو المطر يتساقط من جديد ولا زلت انتظر عودته ..
ولا زلت أجري كطفلة كلما هطل المطر .
فيا ليت لنا ذاكرة نسيان ننسى بها ما يزعجنا ونستعيدها احيانا كي تعيد إلينا الحياة.

الكاتبة
إكرام التميمي
24.6.2021



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

حروف من الألم//الكاتب فوزي سليم

 #حروف_من_الألم: كيف يكتب القلم.!؟  ما أشعر به من ألم...  على جثث تفجرت ثم صارت رمم......  لم تجد من يخرجها فدفنت تحت الردم. ياأمة تفرقت وتش...